أوصدتْ أبوابُ مستشفيات بالضفة الغربية أمامه، ومنعتهُ من الدخول بحالةٍ علاجية خطرة، الطفل سليم النواتي مريض سرطان من غزة حُوّل لمستشفى النجاح بتحويلة صادرة من دائرة العلاج بالخارج بوزارة الصحة، فرفضت المستشفى استقباله "بسبب تراكم الديون المالية على الوزارة"، وتركته فريسة للسرطان لينهشه في لحظات الضعف، وأدخلوه في لعبةٍ "الديون والخلافات" هو ليس طرفًا فيها.
في السادس والعشرين من ديسمبر/ كانون أول 2021، وصل سليم برفقة عمّه جمال لمكتب مستشفى النجاح، ليتعجب إداري المستشفى من قدومه "احنا بعتنا إنّك تجيش ومعك سبع حالات أخرى"، فلدينا قرار منذ ثلاثة أيام بعدم استقبال تحويلات بسبب تراكم الديون على الوزارة.
حاول جمال إقناع الإداري بأنّ التحويلة العلاجية صادرة قبل قرار المستشفى ولكنّ تأخير السفر من غزة كان بسبب الاحتلال، لينتهي الحوار برفض استقبالنا قائلاً: " أنت ما إلك مكان عنا بالمستشفى.. كلمات نزلت كالصاعقة على قلب سليم (16 عامًا)، رغم أنّ طبيبًا كان في المكان نبّه الإداري لخطورة حالته بعدما اطّلع على تقرير التحويلة العلاجية".. يقول جمال النواتي لـ "فلسطين أون لاين".
عمّ الفتى ينفي "قطعًا" أن تكون المستشفى قد قدّمت رعاية مُضيفًا عن بقية التفاصيل "اتصل الإداري بمدير أعلى منه لكنه رفض إدخاله، ولم يعرض على الأطباء وأعمتهم المادة ووجود مستحقات مالية على الوزارة" متسائلاً بقهر "لماذا لم يضيفوا حالة سليم بين الأموال المتراكمة منذ عدة سنوات".
إثر وفاته أعفت وزيرة الصحة مي كيلة مدير عام التحويلات الطبية هيثم الهدري، وعيّنته مديرا للوزارة جنوب الخليل، في خطوة فسرها مراقبون على أنّ الهدري قُدّم كبش فداء لإطفاء غضب الرأي العام على الوزارة وفي الصراع بين كبار المسؤولين.
رحلة معاناة
عمّ الطفل يقول إنّ الهدري هو المسؤول الوحيد الذي وقف مع قضية سليم من بدايتها حتى نهايتها، "عندما توجّهنا لمكتب الهدري، خاطب جميع المستشفيات الحكومية والخاصة كالمستشفى الاستشاري والمطّلع وكذلك جمعية المقاصد الخيرية ومُجمّع فلسطين الطبي برام الله، وفوجئنا بالرفض، ودَخلْتُ مكتبه وجلست معه حيث أنّه لم يُقصّر في دوره ووعد سليم بأنه سيعود سالمًا".
رحلة معاناة انتظرت سليم وعمّه بين أروقة مجمع فلسطين الطبي، يدخلنا في تفاصيل معاناته "تجولت بين كلّ أقسام المشفى بداية من الأورام ثم نزلت لقسم الأطفال، وجرى تحويلنا لقسم الباطني، ثم الصدرية ثم للمبنى الكويتي، كان سليم يرافقني، حتى وصلنا مدير المجمع الذي أمسك التحويلة وكتب عليها "لا مجال لاستقبال المريض" للأسف نحن نتحدث عن مستشفى حكومي وليس مستشفى خاصًا".
يُكمل "ذهبت لتقديم شكوى بمجمع فلسطين ومديره لوزيرة الصحة، ثم لمكتب رئيس السلطة وكان الرد بأنّ علينا مخاطبة المستشفيات الإسرائيلية، وقبلنا بمستشفى "ايخلوف" الإسرائيلي ولم نقبل بمستشفياتنا الوطنية في غياب للمبادئ".
يسألُ الطفلُ عمَّه بوجهٍ شاحبٍ: "يا عمّي ليش مش قابليني؟"، حاول إخفاء الإجابة أو تأخيرها على الأقل: "لا لا احنا بنستنى دور"، - "صحيح أنا معي سرطان؟".. "يعني حموت؟ إحكي مشان الله؟"، – "تخافش مش راح يصيرلك إشي"، كلها أصوات حوارات بين سليم وعمّه جمال في أيامه الأخيرة مع بدء تدهور حالته الصحية.
حدّد المستشفى الإسرائيلي التاسع من يناير/ كانون ثاني الجاري موعدًا لاستقبال سليم، لكنّ سوءَ حالته الصحية وتدهورها جعلت عمّه يذهب به لمبنى دائرة العلاج بالخارج وهناك نُقل بواسطة إسعاف لمُجمّع فلسطين لكنه كان في أنفاسه الأخيرة، أخيرًا أُدخل المشفى لكنه كان قد فات الأوان حيث لم تنفع أجهزة التنفس الصناعي وعملية إنعاش قلبه، لإنقاذ جسده الذي نهشه المرض.
كبش فداء
عضو الحراك الفلسطيني الموحد الناشط خالد دويكات، يقول "لدينا معلومات مؤكدة أنّ هناك محاولات قبل قضية سليم لإخراج الدكتور الهدري من دائرة التحويلات، وجاءت قضية الطفل كحُجّةٍ من أجل نقله"، مُعتبرًا أنه ذهبَ كبشَ فداءٍ من أجل "تلبية مطامع الفاسدين".
ويرى أنّ سليم ذهب ضحية صراع بين رؤساء الوزراء باعتبار أنّ مستشفى النجاح تحت إدارة رامي الحمد لله (رئيس وزراء حكومة رام الله الأسبق) وتتعمّد تعطيل العمل الصحي تحت إدارة رئيس الوزراء الحالي محمد اشتية، "وكأنه انتقام" بين الطرفين.
النيابة العامة
وأحالت لجنة شكّلتها وزارة الصحة للتحقيق بوفاة الطفل النواتي الملف إلى النيابة العامة برام الله، وأوصت خلال مؤتمرٍ صحفيٍّ عقدته برام الله اليوم السبت، بإعادة النظر بآلية عمل دائرة شراء الخدمة فنيًا وإداريًا وماليًا، ومعاقبة كل من تم إدانته بالتقصير من لجنة التحقيق.
وعدّت اللجنة أنّ ما حدث "سقوط أخلاقي وإنساني في قضية الطفل"، مؤكدة أنّ الصحة أخطأت بترك الطفل دون علاج منذ دخوله الضفة حتى وفاته.
وتعليقا على ما ورد في تقرير اللجنة قال عمُّ الطفل لصحيفة "فلسطين": "نحن ننتظر نتائج التحقيق النهائية، فما وردَ ليس كافيا، فالمُقصّر لم يعاقب"، مُطالبًا بمعاقبة المُقصّرين، وأوّلهم مدير مُجمّع فلسطين الطبي وإدارة مستشفى "النجاح".
وأكد أنّ الانتصار لقضية سليم يتحققُ بوجود إجراءاتٍ ملموسة، حتى لا تتكرر المأساة و"العذاب والمرار الذي عاشه سليم" مع آخرين.