بعض الناس لا يدركون ماذا يعني الحديث عن قضية التطبيع، ويظنّون أننا فقط إزاء موقف أخلاقي أو قومي أو إسلامي يتصل بالعلاقة مع كيان غاصب؛ احتل واحدة من أهم بقاع المسلمين.
والحال أن الأمر يتجاوز ذلك بكثير، وهذا ما أدركه المعنيون (رسميا وشعبيا) في مرحلة سابقة شهدنا خلالها موجة تطبيع لا تقل سوءا عن الحالية.
حدث ذلك بعد اتفاق "أوسلو" الذي تورَّطت فيه قيادة منظمة التحرير من وراء ظهر الوضع العربي الرسمي، ومن وراء ظهر الشعب الفلسطيني أيضًا. ولتذكير "القبيلة الحزبية" التي كانت "حركة تحرير"، وحوَّلها محمود عباس إلى حزب سلطة في خدمة الاحتلال.. أعني حركة "فتح"، فقد كان الزعيم الملهم راهنًا، و"كرزاي فلسطين" أيام عرفات (أعني عباس)، هو أهم مهندسي الاتفاق الكارثي الذي أنتج سلطة صُمِّمت لخدمة الاحتلال، وسمّاها كاتب إسرائيلي شهير بـ"الاختراع العبقري المسمّى سلطة فلسطينية".
نعود إلى دلالة التطبيع، والتي تعني بكل بساطة بُعدين خطيريْن جدا؛ الأول هو التمهيد لتصفية ناعمة للقضية الفلسطينية، عبر "الحل الإقليمي" أو "السلام الاقتصادي" الذي يترك كل شيء على حاله، ويجمّد القضية، ثم يحوّل المؤقت إلى دائم دون مؤتمرات ولا توقيعات.
أما البُعد الآخر، فيتمثل في فتح المجال أمام اختراق صهيوني بالغ الخطورة للدول العربية، سيجعل من "إسرائيل" دولة إقليمية ذات سطوة كبيرة، لا سيما أننا إزاء مرحلة بالغة البؤس من حيث حالة التشرذم الذي يعيشه الوضع العربي الرسمي، أي أننا سنكون إزاء دولة قوية بقدرات كبيرة، وذات سطوة دولية، في مقابل وضع عربي مدجج بالتناقضات التي سيجيد العدو اللعب عليها.
كلا البُعدان كانا واضحيْن تماما أمام الوضع العربي الرسمي والشعبي خلال موجة التطبيع السابقة، وهذا ما جعلهما يتوحّدان نسبيا في المواجهة؛ على تفاوت بين طرف وآخر.
بدأت المواجهة مع موجة التطبيع والهرولة السابقة مبكرا، وبعد عام على انطلاقتها حين عقدت قمة الإسكندرية الثلاثية (مصر، السعودية وسوريا)، وانطلقت موجة المواجهة مع التطبيع، وتحوّل عمرو موسى الذي كان أداة للدبلوماسية المصرية؛ إلى رمز للمواجهة؛ حتى غنّى له شعبان عبد الرحيم (بحبّ عمرو موسى وبكره إسرائيل)!
على الصعيد الشعبي، رأينا نشاطا واسعا في المواجهة مع التطبيع في أكثر الدول العربية، بما فيها الدول الثلاث المشار إليها، فضلا عن الأخريات، بما في ذلك الأردن الذي تبع منظمة التحرير ووقع اتفاق "وادي عربة" عام 1994.
لا شك أن ثمة فروقا واضحة بين المشهد السابق، وبين المشهد الراهن، تمثّل في بُعديْن أساسييْن.. الأول هو حالة الصعود التي كانت تعيشها القوى الإسلامية في المنطقة، والتي تصدّرت نشاطات مقاومة التطبيع، وتحالفت في ذلك مع القوى القومية واليسارية، الأمر الذي يبدو مختلفا الآن، حيث تعيش وضعا صعبا إثر هجمة "الثورة المضادة"؛ بجانب علاقات إشكالية مع القوى الأخرى بسبب الموقف من ثورة سوريا وعموم الربيع العربي.
أما البُعد الآخر، والذي يرتبط نسبيا بالأول، فيتمثّل في وجود محور مقاومة يحظى بحضور ودعم شعبي كبير، يتمثل في القوى الإسلامية السنيّة، مع إيران والقوى التابعة لها، الأمر الذي منح معركة المواجهة مع التطبيع زخما جديدا، بخاصة حين جاء ذلك في ظل مقاومة حزب الله في لبنان، والتي تُوّجت بطرد الاحتلال من الجنوب عام 2000، ثم انتفاضة الأقصى (أيلول 2000) التي كانت بمثابة العنصر الأكثر حسما في ضرب مسلسل الهرولة والتطبيع.
لا حاجة إلى التذكير بالفرق على هذا الصعيد الأخير تحديدا، وحيث تعيش الغالبية السنيّة في المنطقة حالة تناقض سافرة مع إيران وأدواتها بسبب مشروع التمدد المذهبي الذي أسفر عن وجهه في العراق ثم سوريا ثم اليمن.
كل ذلك يؤكد أن المرحلة الراهنة أكثر صعوبة بكثير، وأن مساعي الصهاينة لتحقيق ما عجزوا عنه في المرة الأولى بعد "أوسلو" وتنظيرات "بيريز" عن "الشرق الأوسط الجديد"، والتي تليها بعد غزو العراق، ستكون أكثر خطورة، وهو ما يفرض مواجهة من نوع أقوى لإحباط المؤامرة الجديدة، من دون تجاهل الحاجة إلى منع إيران من النجاح في فرض مشروعها المذهبي أيضا.
لو كان المنطق هو الذي يحكم عالم السياسة، لكان الخيار الأفضل هو حوار عربي إيراني تركي، يفضي إلى تفاهمات تلجم المشروع الصهيوني، وتوقف الصراع الذي يستنزف شعوبنا، وهو خيار لا يمكن استبعاده تماما، لكن الجلوس بانتظاره ليس حلا، بل لا بد من حراك قوي ضد موجة التطبيع؛ تقوده القوى الحيّة في الأمة، وفي مقدمتها القوى الإسلامية.. حراك يواجه الموجة الجديدة من جهة، ويمنح تلك القوى دفعة شعبية من جهة أخرى؛ بخاصة بعد معاناتها من مطاردة "الثورة المضادة".
أما الذي لا يقل أهمية، فيتمثّل في مطاردة المعادلة التي وجّهت الضربة الأقوى لموجة التطبيع السابقة، ممثلة في "انتفاضة الأقصى"، لأن الحاجة ماسّة لتفجير انتفاضة فلسطينية شاملة، تهيل التراب على مشروع تصفية القضية، واختراق الكيان الصهيوني للمنطقة والهيمنة.
الجهود في هذا الاتجاه هي واجب الوقت، ولن يحدث ذلك من دون فضح مشروع عباس، وتعريته تماما أمام الشعب الفلسطيني وجماهير الأمّة كلها، وذلك باعتباره امتدادا لمشروع المهرولين نحو الكيان، ومن يتحالفون معه، ويسهّلون مهمته.