في كل مرة كانت تضرب فيها جرافة الاحتلال أسنانها في جدار منزله لتقطع أوصاله كانت أيضًا تشق قلب المقدسي باسل جلاجل (24 عامًا) من بلدة سلوان بالقدس المحتلة، وهو يرى حلم عمره يتهاوى أمام عينيه.
كان يبكي بصمت وهو يراقب المشهد، ويحاول التخفيف عن زوجته التي دخلت المنزل عروسًا قبل سبعةِ أشهر، ويقف لا يملك بيده حيلة، في مشهد تجلت فيه غطرسة المحتل على أصحاب الأرض، وداست على قوانين حقوق الإنسان.
عاودت الجرافة الإسرائيلية ضرب مخالبها في منزل "جلاجل" على مدار ساعتين، حتى سوته في الأرض، في 28 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إذ أبى الاحتلال إلا أن ينغص حياته وعروسته قبيل عامهم الجديد.
"منذ أربع سنوات وأنا أعمل من الساعة الخامسة فجرًا، وأعود للبيت الساعة الواحدة في منتصف الليل لأدّخر المال، ثم اشتريت البيت وتزوجت، ليأتي الاحتلال ويهدم كل شيء في لمح البصر. ضاع كل شيء وضاع كل التعب والجهد".. تستمع صحيفة "فلسطين" لمأساته.
وقبل تدمير منزله، خاض الشاب "جلاجل" معركة في أروقة قضاء الاحتلال، وواجه مخالفات باهظة قيمتها 90 ألف شيقل، واستطاع محامي الدفاع تأجيل جريمة الهدم عدة مرات.
بيت مساحته 120 مترًا مربعًا آوى أحلام الشاب "جلاجل" وعروسه، لكن الاحتلال وبزعم عدم وجود ترخيص، هدمه في محاولة أكبر لتفريغ المنازل المجاورة لأسوار المسجد الأقصى من الجهة الجنوبية من بلدة سلوان، التي تعرف بلقب "حامية القدس"، ليتسنى له الاستيلاء على المسجد، فكان "جلاجل" والعائلات المقدسية ضحية المخطط الإجرامي الإسرائيلي.
يعتري صوته حزن ممزوج بالقهر وهو يقول: "لا يمكن وصف شعور رؤية بيتك يهدم أمام ناظريك، في تلك اللحظة كنت كلما حاولت التماسك أمام زوجتي حتى لا تنهار، كانت دموعي تغلبني".
قبل جريمة الهدم جاء ضباط شرطة وبلدية الاحتلال وحددوا له قيمة المخالفة بعد كل يوم تأخير في الهدم، يستذكر: "قال لي الضابط إن الهدم في يوم الخميس سيكون بلا غرامة، وإن حدث يوم السبت سيكلفك غرامة 50 ألف شيقل، ويوم الأحد 200 ألف شيقل، ثم حدث الهدم يوم الأربعاء ليتم تثبيت الغرامة الأخيرة، وهذا مبلغ خيالي يستحيل أن أسدده".
بعد جريمة الهدم، وكعادة الاحتلال مع المقدسيين، سلّط محاكمه للسطو على ما تبقى من حياة المقدسي "جلاجل" الذي يعمل في محل لبيع اللحوم، وعاد بعد الهدم للعيش بغرفة في بيت أهله، إلا أنه بات يواجه المخالفات ويدفعها دفعات شهرية، وإذا ما تأخر شهرًا يستولي الاحتلال على أي مقدرات يملكها.
وبذرائع مختلفة، منها عدم ترخيص البناء الذي يحرم الاحتلال المقدسيين منه، ويفرض ضرائب وغرامات باهظة عليهم، يتهدد الهدم نحو 24 ألف منزل في القدس.
مخاوف جديدة
نضال الرجبي رفض قرار "الهدم الذاتي" لمحله، ورفع راية المواجهة في وجه الاحتلال وقراراته الجائرة بحق أبناء الشعب الفلسطيني بمدينة القدس، ذهب ليتصدى للآليات التي جاءت في يوليو/ تموز الماضي لهدمه، متشبثًا بمصدر دخل عائلته حتى الرمق الأخير، إلا أن تلك القوات المدججة بالسلاح اعتقلته حينها، والآن يعيش على وقع مخاوفٍ جديدة بعدما سلمته قرارًا بإخلاء بيته قسرًا.
استطاع الرجبي الذي يسكن في حي البستان في سلوان جنوب المسجد الأقصى، تأجيل قرار هدم منزله 6 أشهر، وهو ما يصطدم بموعد زفاف ابنته في يونيو/ حزيران القادم، لا يعرف إن كان سيزفها من المنزل أم على أنقاضه.
"لقد أوقف الاحتلال حالنا، فلا يستطيع الأبناء الدراسة، ولا نستطيع تجهيز أي شيء، أكثر ما يشغلني كيف سأزف ابنتي، وكلي خشية أن يهدم البيت قبل الزفاف أو في اليوم نفسه، فالاحتلال عودنا أنه لا يعرف الإنسانية".
أشبه بـ"حالة حرب"، حسب وصف نضال، يبدو حي البستان في هذه المرحلة "تشعر كأن كل مؤسسات دولة الاحتلال يحركها المستوطنون، لمحاربتنا والاستيلاء على منازلنا" علت نبرة صوته الغاضبة.
إضافة لمنزله المهدد هناك 120 منزلا في حي البستان مهددة بالهدم، عبر سياسةٍ إسرائيلية بطيئة، حيث يقوم الاحتلال بتفريغ المنطقة على "نارٍ هادئة"، ويستفرد بكل عائلة على حدة، وهو ما يدركه الرجبي ويرفض الرضوخ إليه "حتى لو هدموا بيتي سأبقى متشبثًا بأرضي حتى آخر رمق".
تسارع الهدم
وأفاد الناشط المقدسي فخري أبو دياب بأن عام 2021 شهد تسارعا في جرائم الهدم، في محاولة فرض واقع جديد في المدينة المحتلة ومسح هويتها وتاريخها وطابعها العربي.
وأوضح أبو دياب لـ"فلسطين" أن سلطات الاحتلال لم تمنح تراخيص للمقدسيين في محيط المنطقة الممتدة من الشيخ جراح إلى بلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى، وعملت على استهداف الحياة الاقتصادية والسياسية وكل مناحي الحياة، لتفريغ المنطقة قسرًا.
ولفت إلى أن منطقة سلوان كان لها النصيب الأكبر من الاستهداف الإسرائيلي، حيث هدم الاحتلال فيها 69 منزلا العام الماضي، وسلم سكانها 6 آلاف أمر هدم، وهذه المنطقة توصف على أنها خاصرة جنوبية وقوس حماية المسجد الأقصى.
وبحسب إحصائية لمركز معلومات وادي حلوة، فإن بلدية الاحتلال نفذت 187 جريمة هدم في مدينة القدس خلال 2021، من بينها 115 منشأة هدمت قسرا بأيدي أصحابها، بزعم البناء دون ترخيص.
ويقول أبو دياب إن هناك أكثر من 117 منزلا هدمت في محيط القدس، ليبلغ إجمالي المنازل التي هدمها الاحتلال العام الماضي 292 منزلا داخل حدود جدار القدس وخارجه.
وهناك أكثر من 13 ألف مقدسي مهدد إما بهدم منزله أو الاستيلاء عليه أو التهجير القسري، في مخطط إحلال المستوطنين، لتغيير الخارطة الديمغرافية في محيط المسجد الأقصى، وتشكيل فاصل استيطاني أمني يغير الوجه الحضاري للبلدة القديمة، وفق أبو دياب.
كما شهد العام ذاته، تقديم محاكم الاحتلال 780 لائحة اتهام لهدم منازل المواطنين ذاتيا، وفرض غرامات مالية عليهم قدرها 39 مليون شيقل، لإفقار المقدسيين.