تثاقلت يدا رامي عويضة وهو يمسك مِعول الهدم (المهدة)، موجهًا الضربات لجدران بيته في بلدة سلوان جنوب القدس المحتلة، ولكن لا مجال للتراجع، ومع الضربة الأولى تهاوت أحلامه وتقاطرت الدموع في عينيه حزنا وفجعا على منزل أصبح بات ذكرى.
لا كلمات تصف شعور عويضة وهو يهدم بيته بنفسه مطلع العام الجديد، حيث أرغمته سلطات الاحتلال على فعل ذلك، وإلا نفذت الجرافات والبواقر الإسرائيلية المهمة مع تحميله تكاليف الهدم التي تصل لأكثر من 100 ألف شيقل، أي ما يعادل (32 ألف دولار)، لا يقوى على دفعها.
لم يكن رامي وحده، فأطفاله الخمسة من حوله أجهشوا بالبكاء حسرة على أبسط حقوقهم بمسكن آمن يؤويهم مع والديهم، قد كفلته لهم القوانين الدولية والإنسانية كافة.
يعيش عويضة (37 عاما) مع زوجته وأطفاله في حي وادي قدوم جنوب المسجد الأقصى، بمساحة لا تتعدى 70 مترًا، ضاقت الجدران عليهم، فأراد أن يبني غرفة كملحق للمنزل ليتوسع بها، وقبل أن يستكمل بناءه أصدرت المحكمة الإسرائيلية الاحتلالية أوامر الهدم بحجة عدم الترخيص.
هذا المنزل كان بمنزلة حلم لرامي وعائلته الصغيرة، رسم معالمه وأثاثه في مخيلته كما رسم الأيام التي أراد أن يمضيها بين جدرانه الحية بأنفاس أطفاله.
كان يحلم عويضة في اليوم الذي سيشرب فيه فنجان قهوته على شرفة منزله في يوم عطلته (الجمعة)، متأملا الورد والأزهار والأشجار التي زرعها لتمنح المكان مظهرا جماليا يدعو إلى الاسترخاء بعد أسبوع عمل شاق.
يقول لـ"فلسطين": "أمر مفجع للغاية أن تهدم بيتك بيدك، ولا كلمات تعبر عن ذلك الشعور، ولا سيما أنني أردت بناءه ليسع عدد أسرتي الكبير، وقد استدنت مبلغًا ماليًّا كبيرًا لإكماله، ولا يوجد لدي مكان آخر أعيش فيه، والآن عدت إلى العيش مع والدتي التي رفضت أن أستأجر بيتًا".
يضيف: "أسكن هذا المنزل منذ زواجي قبل 15 عاما، وهو عبارة عن غرفة صغيرة ومطبخ ودورة مياه، وبنيت ملحقًا فوق المنزل القديم في عام 2019 بعد توقفي عن العمل في مطعم بسبب جائحة كورونا، حينها توقفت عن البناء وعدت إلى إكماله في شهر يونيو العام الماضي، وفي منتصف أغسطس سلمت أمر هدم إداري".
ويشير عويضة إلى أنه دفع 5000 آلاف شيقل لعمل استئناف في محكمة الاحتلال المركزية، وتم رفضه، وصدر أمر الهدم بمدة أقصاها 9 من يناير/ كانون الثاني الحالي، "ولكن استغليت مطلع العام لتنفيذ الأمر، حيث ساعدني أشخاص بمعدات الهدم دون مقابل مادي".
يقول ابنه الطفل يونس عويضة الذي شارك والده في عملية الهدم: "دارنا القديمة كلها غرفة وصالون مش مكفيتنا.. الكل مبسوط بالسنة الجديدة وإحنا أول يوم بالسنة هدينا الدار".
ورث عويضة بيته عن والده، وبجواره بيوت إخوته، الذين لا يزالون يتمسكون بمنازلهم رغم ضيق مساحتها، لكي لا يحققوا للاحتلال مبتغاه في السيطرة عليها.
وما يُهوِّن على المقدسي وأسرته المأساة الإنسانية التي يعيشونها، أنهم جزء من حالة مدافعة عن المسجد الأقصى ولن تدفعهم مثل هذه الإجراءات للهجرة قسريًا من القدس، كما يشدد.
وعويضة ليس أول مقدسي يضطر إلى هدم منزله بيده أو يهدمه له الاحتلال في مدينة القدس بحجة البناء من دون ترخيص، وباتت عمليات الهدم الذاتي حدثًا شبه يومي في الأحياء القدسية، مشيرًا إلى اضطرار ابن أخته من عائلة السلايمة قبل عامين إلى هدم بيته بالطريقة ذاتها في رأس العامود.
ويؤكد عويضة أن الاحتلال يهدف إلى تفريغ مدينة القدس من مواطنيها الفلسطينيين بإرغامهم على هدم بيوتهم، أو مصادرتها، لدفع المقدسيين للعيش خارج مدينتهم، ومصادرة الأراضي، وتنفيذ مخططاتهم التهويدية.
يضيف عويضة: "لن نترك القدس ولن نتخلى عن هويتنا. حتى لو هدموا بيوتنا، سننصب الخيام فوق الركام، مهما فعل الاحتلال لن نترك القدس".
وتُعد سلوان البلدة الأكثر التصاقا بسور القدس التاريخي والحامية الجنوبية للمسجد الأقصى المبارك، وكانت تمتد أراضيها حتى منطقة الخان الأحمر بين مدينتي القدس وأريحا، حتى أُطلق على تلك المنطقة قديما اسم "خان السلاونة" قبل أن يصادر الاحتلال معظم أراضيها، وتُقتصر البلدة الآن على 12 حيّا بمساحة 5 آلاف و640 دونما.
ويعيش في سلوان 59 ألف مقدسي، إضافة إلى 2800 مستوطن زُرعوا بقوة الاحتلال في 78 بؤرة استيطانية بالبلدة، وفقا لبيانات لجنة الدفاع عن أراضي سلوان.
ويحيط خطر التهجير القسري بنحو 7 آلاف و500 مقدسي يعيشون في 6 أحياء بسلوان، وهؤلاء مهددون إما بهدم منازلهم بحجة البناء دون ترخيص وإما بإخلائها وطردهم لصالح الجمعيات الاستيطانية الإسرائيلية.
وعادة لا يستطيع عدد كبير من المقدسيين في المدينة استيفاء الإجراءات الصعبة والمعقدة التي تطلبها بلدية القدس الاحتلالية، مقابل منحهم تراخيص البناء، وهي إجراءات تحتاج إلى سنوات وتكلف عشرات آلاف الشواقل.