في ظل تزايد مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي، وكل أشكال التعاون معه كما مثّله لقاء أبو مازن الأخير مع غانتس في مجدل الصادق رأس العين، والذي يبدو ككابوس من المحتمل أنه مُحي من الذاكرة والوعي الجماعي للفلسطينيين عبر صواريخ سام التي أطلقها المقاومون الفلسطينيون في غزة للتصدي لعدوان الطائرات الإسرائيلية المغيرة -فيما يبدو- على أهداف سياسية وإعلامية للوعي الإسرائيلي المرتبك، والذي كوته صواريخ المقاومة لشواطئ (تل أبيب) في 1-1-2022 في رسالة عزم وتصميم على المواجهة.
في ظل كل هذه التطورات يأتي اللقاء الهام الذي أجراه صحفي الجزيرة علي الظفيري في برنامج المقابلة في الجزيرة مع السيد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ليعرض الفكر والمنهج، وليقدم معادلة التحرير التي تقف خلف المقاومة الفلسطينية، وليجيب عن الأسئلة الصعبة بصراحة ووضوح.
لقد أجاب السيد هنية وإن باختصار شديد، عن سؤال (المعجزة الحمساوية) في تثبيت وتعزيز أركان المقاومة الفلسطينية في كل أشكال الاحتلال أو التنازل عن الثوابت رغم كل ما تتعرض له هذه المقاومة من ضغوطات ومؤامرات وعداء وحصار من القريب والبعيد، ففي البداية كان الحجر ثم الملوتوف ثم العبوات الناسفة والاستشهاديون، ثم الصواريخ والقاذفات، وكل ذلك قد تم بفضل دعم شعبي غير مسبوق للمقاومة، تمثل في الفترة الأخيرة في تحول هتاف (حط السيف قبال السيف احنا رجال محمد ضيف)، شعار تصدح به حناجر الفلسطينيين بشتى توجهاتهم السياسية حبًّا ودعمًا للمقاومة التي تمثل روحهم وضميرهم، ونكاية برموز التعاون الأمني الذي تزايدت النظرة إليه كعبث وكوصمة عار في تاريخ الشعب الفلسطيني المكافح والمناضل من أجل حقوقه التاريخية.
لخص أبو العبد هنية وبوضوح رؤية حماس وأولوياتها الوطنية لهذه المرحلة في ثلاث نقاط مركزية وهامة، ويكاد يتفق عليها كل أبناء الشعب الفلسطيني وهي:
1. إعادة الاعتبار لقضية تحرير فلسطين من بحرها إلى نهرها، وعدم التفريط في جزء منها، وقد يأتي ذلك في ظل تزايد الحديث عن فشل مشروع إقامة دولة فلسطينية في الـ 67 بسبب فشل القيادة الفلسطينية الرسمية المتآكلة من جهة، وطبيعة المشروع الصهيوني التوسعي الاستيطاني الرافض لكل أشكال التسوية من جهة أخرى، ومع هذا فقد تمتع أبو العبد بصفته ممثلًا للفكر السياسي لحماس بالكثير من المرونة السياسية والمسؤولية الوطنية العالية عندما أكّد موافقته على حل الدولة الفلسطينية في أراضي الـ 67 كصيغة توافق وطني وبشروط حماس الوطنية والمعقولة والمعروفة بهذا الخصوص.
2. استنهاض المقاومة، وهي أولوية تبدو واضحة جداً بالنسبة لأفعال حماس على الأرض قبل أقوال وتصريحات قادتها في وسائل الإعلام، وما جرى ويجري على جبهة غزة من مناورات عسكرية غير مسبوقة واستهداف جنود ومواقع الاحتلال والصواريخ الأخيرة على تل أبيب، وكذلك جبهة الضفة والقدس وكل أماكن وجود الشعب الفلسطيني، لهو خير دليل على حالة النهوض الفلسطيني المستمرة رغم كل أشكال الحصار والملاحقة.
3. أما الأولوية الثالثة لحماس فهي استعادة الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام وعدد ثلاث مستويات لذلك الأول:
الأول: ترتيب القيادة
الثاني: برنامج سياسي
الثالث: إستراتيجية المقاومة
ويبدو أنّ ترتيب هذه الأولويات يحمل في طياته معاني ودلائل هامة ومن أهمها:
أ. أنّ استنهاض المقاومة ضد الاحتلال كمبدأ وكسلوك عام على الأرض لا يحتاج إلى وحدة وطنية على مستوى القيادات العليا، بل إن الأهم والأساس هو وحدة وطنية شعبية ميدانية واسعة، وهو أمر متحقق فعلاً على أرض الواقع.
ب. إنّ أولوية استنهاض المقاومة لا يمكنها أن تنتظر صحوة ضمير بعض القيادات وخاصة السلطة الفلسطينية، وخاصة بعد فشل محاولات المصالحة وآخرها بسبب هرب السيد أبو مازن في اللحظات الأخيرة من الاستحقاق الوطني الداعي للانتخابات الرئاسية والتشريعية ولمنظمة التحرير، بل قد يكون تحقيق أولوية استنهاض المقاومة مقدمةً وشرطاً أساسياً لتحقيق المصالحة، بمعنى أنّ المقاومة على الأرض هي طريق الوحدة والاتفاق الوطني وليس العكس، وإلّا لبقيت المقاومة رهينة حسابات ضيقة للقيادة الرسمية للسلطة ولفتح وحبيسةً في سجون التعاون الأمني مع الاحتلال. فاستنهاض المقاومة وتفعيلها على الأرض إذن قد يؤدي إلى مسارين:
الأول: إقناع شركاء الوطن المنغمسين وللأسف الشديد في مأساة التعاون الأمني مع الاحتلال ودون أي أفق أو ثمن سياسي، بأن هذا التعاون لن يحقق لهم أيًّا من أهدافهم العامة والخاصة الضيقة، فالمقاومة المتصاعدة تحبط لهم برامجهم ومشاريعهم، وبأن لا بديل لهم عن (الاتفاق الوطني) لضمان بقائهم في سدة القيادة، اضطروا حينها للمصالحة بصفتها كخيار عقلاني وحيد، وذلك في ظل تراجع وزن القيم والأخلاق الوطنية في قراراتهم السياسية، ويمكن حينها القول (يؤجر المرء رغم أنفه).
أما المسار الثاني: فهو تشكيل ظروف تساعد على ظهور قيادة جديدة ديمقراطية لفتح تؤمن بالمقاومة بكل أشكالها، ومتصالحة مع تاريخها النضالي الكبير، وتسعى بكل جدية للشراكة الوطنية الحقيقية، وهذا هو السيناريو أو المسار المفضل لدى أحرار الشعب الفلسطيني.
ولقضية تحرير الأسرى مكان واضح في أولويات حماس وفق السيد هنية، إذ أكد امتلاك حركته أربعة إسرائيليين داخل قطاع غزه، وأشار إلى تعنت ومماطلة (إسرائيل) الرسمية في التوصل لصفقة تبادل أسرى مشروعة ومحترمة، وهو الأمر الذي صدّقته وأكدته استقالة عقيد الاستخبارات وممثل الجيش في طاقم التفاوض الإسرائيلي المدعوم موشي تال قبل أيام، والذي اتهم المستوى السياسي في (إسرائيل) بتضييع فرصتين هامتين للتوصل لصفقة أولهما في عام 2018 والثانية قبل أشهر؛ ما دعا السيد هنية للتهديد بقيام حماس باعتقال المزيد من الجنود، لإجبار قيادة الاحتلال على إطلاق سراح الأسرى، مؤكداً بهذا مدى أهمية الإنسان الفلسطيني وحريته وكرامته في فكر ونهج المقاومة.
أمّا داخلياً فقد أكد السيد هنية التماسك الداخلي لحماس، ولم ينفِ ظاهرة الاختلافات الطبيعية الداخلية في وجهات النظر، وأكد اعتماد حماس على مبدأ الشورى الداخلية والديمقراطية الحقيقية، ونفى وجود تيارات داخل الحركة، وخاصة في موضوع العلاقة مع إيران، إذ امتدح دورها في دعم مقاومة الشعب الفلسطيني بالمال والسلاح، وأكد عدم تورط حماس في لعبة المحاور المتحاربة في المنطقة، فكل من يدعم القدس وفلسطين هو صديق لحماس وللمقاومة الفلسطينية، وقد ظهرت دبلوماسية أبو العبد عندما استعرض علاقة الحركة المعقدة مع النظام السعودي الذي أظهر ودون مبرر يُذكر معاداةً واضحةً لحماس والمقاومة ثم يهاجمها بعد ذلك على علاقتها مع إيران.
هي إذن مقابلة هامة وشاملة أبرزت وضوح الرؤية الوطنية السياسية الدولية لحركة حماس، ورسمت بالكلمات معادلة التحرير التي تجري على أرض الواقع من خلال مقاومة الشعب الفلسطيني المتصاعدة في الضفة والقدس وغزة وكل أماكن وجوده.