عمليًّا لم يكن لقاء رئيس السلطة محمود عباس بوزير الحرب بيني غانتس، مؤخرًا في (تل أبيب)، ليضيف تأكيداً آخر أو دليلاً جديداً على ركام الخطايا السياسية والوطنية التي ما فتئت قيادة السلطة تقارفها منذ تأسيسها، وخصوصاً منذ تولّي عباس رئاستها، كل ما في الأمر أن السلطة تمعن في استهتارها بالوعي الفلسطيني وبالمزاج الجمعي، الذي انفض عن منهجها وخياراتها السياسية، وأدانها بالجملة، ولم تعد تدهشه أي فضيحة جديدة، سواء على صعيد السلوك أم التصريحات والمواقف الكلامية.
غير أن آلية تبرير اللقاء في وسائل إعلام السلطة، والتفاخر به، وعدّه إنجازاً واختراقاً في جبهة الكيان الصهيوني، لا تبعث على الرثاء وحسب، بل تثير الغضب والحنق، لأن غير المستوعب أن يصل الاستخفاف بوعي الناس إلى هذا الحد، مع استسهال الكذب والتدليس، وتجميل القبائح، وتسويقها بأسلوب مبتذل لا يقنع ممتهنيه، بل يقول شيئاً واحدا: "ليس أمامكم إلا الإذعان لسياسات السلطة، وتمريرها والاعتياد عليها، وإن كل إداناتكم لا تهز شعرة من رأس قيادتها المتنفذة".
ربما يستغرب الذين لا يزالون يحسنون الظن بنوايا هذه السلطة، ويعدّون خطواتها الكارثية اجتهاداً سياسيا، من مدى جرأتها في عقد لقاء معلن كهذا، والحقيقة أن السلطة تراهن دائماً على جملة عوامل، تغريها بأن تتجاوز ما يعدّ خطوطاً حمراء، أولها أن الموقف العملي من سياساتها لا يتجاوز الإدانة الكلامية، والغضبة الإعلامية لبضعة أيام، ثم يتبخر أثره، حتى وإن ظلت رواسبه في نفوس الفلسطينيين، وثانيها أن حالة الرفض الشعبي لها لن تقدم أو تؤخر، ولن تقصّر من عمرها أو تؤثر على حظوظ استمرارها، ما دامت مطمئنة إلى أنها ستظل متفردة في السيطرة والهيمنة على القرار الفلسطيني، وهي هنا تستمد قوّتها وشرعية وجودها من المحتل الصهيوني وداعميه دوليا، وهو ما يقود إلى العامل الثالث وهو قناعة السلطة بأن ما يثبت أركان وجودها ويمدّ من عمرها هو الرضا الإسرائيلي عن أدائها أمنياً، أي على صعيد ضبط الأوضاع في ساحة الضفة الغربية، وإدامة الوضع الراهن وقطع الطريق على أي مفاجآت قد يشعلها فتيل هنا أو هناك.
قيادة هذه السلطة تعي جيداً ما هو تعريفها أمام نفسها وفي عرف الاحتلال، وأنها لا تتجاوز أن تكون سلطة إدارية أمنية، تستجلب التسهيلات الشكلية الاقتصادية والحياتية، مقابل خدمات أمنية كبيرة، تدفعها للاحتلال من جيب المقاومة، وعلى حساب التقدّم في مسار المواجهة مع هذا المحتل، لكنها مع إدراكها لهذا الدور لا تخجل من الكذب ولا تكفّ عن تمثيل الدور الوطني، ولا عن التموضع كمكوّن طبيعي ضمن الجسد الفلسطيني، وما يساعدها على ذلك ضبابية الموقف من مشروعها على صعيد مجموع فصائل المقاومة، التي ما تزال حتى الآن عاجزة عن بلورة موقف سياسي موحد، واضح وقوي، يعيد تعريف هذه السلطة، ويحدد المسافة منها، وفقاً لمدى اقتراب أو ابتعاد سياساتها عن البعد الوطني الخالص.
وما دام الحال كذلك، فلن نتوقع في قابل الأيام توبة تلقائية عن هذه الخطايا الوطنية، بل ستشهد المرحلة القادمة إمعاناً فيها، وخصوصاً مع ظهور بوادر انتعاش الروح النضالية في الضفة الغربية، وبقدر ما سيحتاج الاحتلال إلى حضور السلطة بقمعها وسيطرتها في الشارع، سنشهد المزيد من العدوان على الحريات، والمحاربة لمجالات العمل الوطني، إلى جانب المنّ على الفلسطينيين بجملة من التسهيلات البائسة، وعلوّ صوت الأبواق المدعية الالتزام بالثوابت الوطنية، فيما هي تسدد لها الطعنات، وتدمي جبهتها، وكل همّها حيازة الرضا الإسرائيلي عن أدائها، فلم يكن الاحتلال يوماً يعبأ بالشعارات التي تشتمه أو تدعي محاربته، ما دام أصحابها يسدون له خدمات مذهلة، ويذعنون بين يديه، ويمتثلون لأوامره وإملاءاته.