فلسطين أون لاين

تقرير مي عفانة.. طبيبة الإرشاد التي حلمت بدور "السفيرة" الفلسطينية

...
الشهيدة مي عفانة مع ابنتها
غزة- يحيى اليعقوبي

صوت ابنته "مي الذي يقطع الوجع أمعاءها كسيفٍ حاد يخرجه من شروده، بعد يومين أمضتهما في المشفى بسبب فيروس في الأمعاء تسلل إلى أحشائها، كان صوتها خافتًا هذه المرة على غير العادة: أنا متألمة كتير".

عادتْ إليه ابنته كطائرٍ لم يعُد يقوى على الطيران في سماءِ الفرح، فقد احتل الألم مساحةً واسعةً من ملامح وجهها وصوتها، وضْعٌ لم يرُق له "خلص جهزي الأوراق، وبدفع تكاليف العملية الجراحية كاملة لتجديد جدار القولون".

على وقع وجعٍ أشبه بمعركة شرسة يدور رحاها داخل أمعائها، غفت "مي عفانة" ابنة الثامنة والعشرين من عمرها وهي طبيبة "إرشاد نفسي" تسكن بمنطقة أبو ديس بالقدس المحتلة، ليلتها تلك تأبى أوجاعها إلا أن تكون ضيفًا ثقيلاً عليها، لم تتركها لحظة وحدها، لم تجد ما يسكن آلامها ويغلق ستار النعاس على جفنيها، وهكذا مرت الساعات بطيئةً وكأنهَا تجرُ حجارةً خلفها.

لقاءٌ لم يعقد

حلَّ الصباح في 16 يونيو/ حزيران 2021، انطلقت الفتاة المتألمة تجاه رام الله بواسطة سيارةٍ جديدة اشترتها قبل مدة، تواصل صديقتها التي تنتظرها برام الله الاطمئنان عليها بين الفينة والأخرى، فقد اتفقتا على أن تزورها "مي" في منزلها قبل الذهاب إلى الطبيب ومراجعةِ ذكريات الجامعة ومواقف عديدةٍ.

لم يسمح بُعد المسافة بين "أبو ديس" و"رام الله" لعقد هذا اللقاء منذ مدة طويلة، "أنا في منطقة حزمة، يلا بلاش يمسكونا، المخالفة ألف شيقل، سلام".. قبل أن تغلق "مي" الخط الهاتفي كانت عيون جنود إسرائيليين على حاجزٍ وسط الطريق الذي تسلكه، قد وصلت إليها فأمرها أحد الجنود بالركون يمينًا.

لم تكن مستعدةً لهذا الطلب، فقد أدخلها الجندي في دوامةِ ارتباك، قبل أن ترتطم سيارتها بصخرة على جانب الطريق الوعر، ويبدأ الدخان بالانبعاث من السيارة، ترجلت من السيارة بجسدها الهزيل فنسبة دمها لم تتجاوز خمس درجات، وبدأت الدنيا تلفُ بها من الاتجاهات الأربعة، ومن كل جهة كانت تلمحُ بنادق الاحتلال المشهرة نحوها.

لكن الرصاصات الأربع خرجت من مسدس جندي يقود جرافة تقوم بأعمال استيطانية على الطريق، مشهدٌ وثقته عيون شهود عيان كانوا بالمنطقة، وهو يطلق أربع رصاصاتٍ على رأسها، كانت الطلقات تخرج متهاوية نحوها.

تهاوت "مي" التي لطالما أبكتها مشاهدُ قتل جنود الاحتلال للشبان الفلسطينيين عبر الحواجز، وتعهدت أن تكون سفيرةً فلسطينية لتفضح جرائم الاحتلال، ولم تدرِ أنها ستكون الضحية التالية، وأن حلمها سيغتال بالطريقة والأسلوب نفسهما، وتُركت تنزف حتى  تصفت آخرة قطرة دمٍ من جسدها.

تركت مي كل شيء خلفها، أحلامها، طفلتها الوحيدة "سلاف"، عائلتها، والدها، هكذا كل شيءٍ انتهى بمجرد شكِ جنود الاحتلال بها، أو ربما كان الجنود بمزاج سيئ فقرروا تعويض ذلك بأي فلسطيني قادم، فهم دائمًا مستعدون للقتل.

فعلى تلك الحواجز أزهقوا أرواح المئات قبل "مي"، لذا من الأجدر لهم تسميتها "حواجز الموت"، لتعبر عن ذلك الواقع، فكل عابر طريق يكون تحت مرمى عيون الجنود وقراراتهم المزاجية الانتقامية، وكأنَّهم اخترعوا قانونًا جديدًا، بعيدًا عن أي عرف إنساني وبشري، أو أنهم مخلوقات بلا قلوب.

سرعان ما انتشرت الصورة، وعمّت أرجاء الفضاء الأزرق، وتغير الشريط الإخباري لشاشات التلفزة للون الأحمر التي عنونته "جنود الاحتلال يقتلون فتاة فلسطينية" ربما هذا العنوان أصبح جاهزًا في تلك القنوات مع تغيير الأسماء فقط، حتى وصل النبأ إلى والدها في حين كان يتابع أعمال البناء التي تسلَّمها في الحي.

اهتز الهاتف في جيبه، وارتج مرات عدةٍ، ينصت لما في جعبة المتصل على الخط الهاتفي "مي صدمت سيارتها وهي رايحة على رام الله"، قطع الأب ستار صمته "معناته، فقدت التركيز وعملت اصطدام" هكذا ذهبت أفكاره، وسرعان ما علم أنها اغتيلت بدمٍ بارد بعملية إعدام ميدانية كانت ضحيتها "مي".

 "ذهبت مي لرام الله لاستكمال الحصول على تأمين لمدينة عمان لإجراء عملية تجديد جدار القولون، وحينما ارتبكت من طلب الجندي ركون السيارة على جانب الطريق وهو يشهر بندقيته، نزلت ووقفت بجوار سيارتها، فأطلقوا عليها الرصاص بلا رحمة وبكل حقد وغل".
كأنك تستطيع استنشاق رائحة حزن والدها من خلف جدران القهر الذي يخنق صوته، وإن حاول ابداء صلابته طوال خمس وثلاثين دقيقة، وهي المساحة التي لم يبخل بها عبر الهاتف مع صحيفة "فلسطين" للبوح بقصة ابنته وظروفِ استشهادها.

مشهد إعدام ابنته ينخر قلبه، يضيف بعد تنهيدة يدوي صداها: "بما أن الأرض وعرة، وبعدما اصطدمت السيارة بالأرض، شعرت بالاختناق، ونزلت ووقفت بجانب سيارتها، فاغتالوها وهي واقفة (...) دمها خمسة، بهذه الحالة الإنسان بكون مشرف على الموت ولا يستطيع فعل شيء، ومنذ عامين على هذا الحال".

شهود عيان

حاول الاحتلال التغطية على جريمة جنوده وقلب الحقائق، لكن كانت عيون شهود العيان من أهالي بلدة "حزمة" شاهدة على ما جرى، "أخبرني شهود العيان أنهم أزاحوا سيارة مي بالجرافة وغيروا معالم موقع الحدث، ونصبوا خيمة وكسّروا بعض الكراسي، كي يظهروا أن مي هي التي اعتدت عليهم، مع أن كل من كان هناك، رأى سائق الجرافة أطلق الرصاصة، كما أنه لا يوجد بالسيارة أي رصاصة وهذا دليل على زيفهم".

لذا كان الحوار محتدمًا بين الأب المكلوم وضابط مخابرات الاحتلال الذي استهل اتصاله به بكذبةٍ أخرى: "بنتك نفذت عملية انتحارية.. اخرس قبل ما تجيب سيرة بنتي، لعنة المولى عليك وعلى دولتك، أنتم قتلتوها".

يتقاذف الغضب من صوت والد "مي"، عائدًا لحواره مع ضابط الاحتلال "بعدما وجدني بكل هذه الصلابة، حاول تهديدي، لكني رفضت استكمال الكلام معه، ولم يتجرأ للعودة والاتصال مرة أخرى، فابنتي طبيبة تذهب بسيارتها لحضور محاضرات بمدينة "الكرك" بالأردن وتعود لتعد الطعام لزوجها وطفلتها وتعبر صحاري وطرقًا وعرة، فهل هذه فتاة سئمت الحياة؟".

على مدار عامين ظلت "مي" تسير بسيارتها مسافة ثلاثين كيلو مترًا من منطقة "أبو ديس" بالقدس المحتلة إلى الجسر عند الحدود مع الأردن، ومن ثم تعبر مسافة مئتي كيلو متر بسيارة أخرى تستأجرها أو من خلال المواصلات لتذهب إلى جامعة "مؤتة" في مدينة "الكرك" كي تحضر المحاضرة وتعود لبيتها حتى نالت شهادة الدكتواره، ما زال والدها يتعجب من صلابة ابنته "رغم مرضها، كانت جبارة وعندها همة بتفوق جبال".

سفيرة مستقبلية

يقفُ على نوفذ الذاكرة، تلمعُ "مي" من أحد المواقف التي احتفظ بها والدها على جدرانها "طمحت أن تصبح سفيرة، ما زلت أذكر كلامها قبل مدة قصيرة: حابة أصير سفيرة عشان أفضح تصرفات العدو"، فكانت محتجة على تصرف السفراء الفلسطينيين، وأنهم بنظرها لا يوصلون المعلومة بشكل يفضحون الاحتلال.

يتسللُ صوت "مي" حينما أزاحت له الستار عن أمنيتها إلى حديثه هنا "بدي أوصل معاناة شعبنا واللي بصير، بنشوف الاحتلال بخلي الإنسان المصاب ينزف، فش أي دولة في العالم بتسمح أنه الإنسان ينزف ساعتين حتى يجيبه الإسعاف، إلا هالمجرمين"، يعلق بعدما ألقى سلامًا إلى روحها الطاهرة "استشهدت بنفس الطريقة اللي كانت بدها تفضحها للعالم".

"كانت مدرسة بجامعة الاستقلال بأريحا وهي حاصلة على الدكتوراة في تخصص "الإرشاد النفسي" ولم يزد عمرها على ثمانية وعشرين سنة، وتُدرِّس طلابًا أكبر منها، كانت عجيبة، تحب العمل إضافة للتدريس كانت تشتري وردًا وتبيعُ أحواضًا، وتستورد ملابس وتبيع للنساء" تغمر والدها ضحكة عابرة "فش شغلة إلا عملتها، حتى إخوتها كانوا يتعجبوا منها ما يصدق فيهم الواحد يروح ينام أما هي ما بتعرف النوم".

أودعت "مي" مواقف عديدة في ذاكرة والدها، كان هذا أحدها "شاركت بمسيرة تضامنية مع غزة، ورسمت هي وطفلتها سلاف (خمس سنوات) علم فلسطين على وجوههن وارتدت ثوبًا تراثيًا، وكانت تهتف: يا إم الشهيدة نيالك، ياريت إمي بدالك".

التقطت يومها صورة "سلفي" جمعت بين إطارها "مي" وطفلتها ترصعت ملامحهن بألوان علم فلسطين، في الصورة كانت الابتسامة تتوهج وتنطق ملامحهن بالحياة، بقيت الصورة لتذكر والدها بها، علقها على جدار قلبه ووضعها على غلاف صفحته على "فيسبوك".

قبل أن يغفو والدها كل ليلة، سيرحل طيفه بعيدًا حتما سيمر في رحلته بالتنقيب عن مي داخل سراديب ذاكرته، صوتها حينما طلبت منه إنشاء مزرعة دواجن صغيرة، وهي لم تتجاوز أحد عشر عامًا، سيتذكر صوتها الذي تراقصت فيه كل عبارات الفرح حينما جاءته معلنة نجاح مشروعها الأول "يا بابا، هي شغلانة بتربح.. اعملي مزرعة أكبر".

سيتذكر رفضه لطلبها: "بلاش احنا بوسط البلد"، سيتذكر لحظة إبصار مولودته البكر الحياةَ، يومها الناس تعجبوا من دلال جدَّيْها لها "هو فش حدا خلَّف غيركم"، سيسمع دمعات قريبه المسن بمدينة "الكرك" الذي تهاوت دموعه عبر الهاتف حزنا على "مي" واعترف له، أنه لم يبكِ في وداع والديه كما بكى على رحيلها، لا يصدق أنها لم تعد تزره.

يسمع صوتها من بين أنات الوجع "أذكر نشاطها وكيف كانت تحث شقيقها وهو بطل في الملاكمة أن يسعى للتفوق، ما زلت أتذكر ما قالته مُدرِّستها التي أشرفت على رسالة الماجستير لحظة مناقشة الرسالة: "هاي رسالة دكتواره مش ماجستير".

"كنا نشعر أن هناك شهيدًا ثالثًا سيخرج من الحارة، فقد شيعنا قبل شهور شهيدين في البيتين الملاصقين لمنزلي، لكني لم أدرك أن الشهيد ستكون ابنتي".

تحطُ أحباله الصوتية عند جرأة ابنته، ابتسمَ صوته "هي بنتي لكن كنت أحسها أمي لأنه عندها شخصية قوية وحاملة المسؤولية"، ثم ينفض الغبار عن التفاصيل عن موقفٍ آخر: "في أول يوم برمضان، مرض شقيقها وعمره أربعة وعشرين عاما، ولديه مشكلة بالجيوب الأنفية، فأخذته لمدينة بيت لحم بسيارة زوجها، وظلت حتى المساء، وأجرت له العملية وعادت مساءً".

"يا صغيري دمعتك أطهر من ماء زمزم، نحن شعب نرفض أن يقال عنا لاجئين ونازحين".. رحلت تاركةً تلك الكلمات التي كانت آخر ما خطه قلمها الأزرق، فبأي ذنب قتلت مي؟!

 

 

 

 

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين