فلسطين أون لاين

حوار بشرى الطويل بعد أسرها "الرابع".. عهدُ "لبؤة ذاك الأسد" يتجدد

...
a5b9abab-968a-4310-ad45-54f218f3b6f1.jpg
غزة/ يحيى اليعقوبي:


يعلو صوت قرع الباب المتواصل مع أصوات دورية لقوات الاحتلال، وصوت الضابط يرتفع من خلف الباب وهو يطلب  أن يفتح؛ لما أرخى الليل ستاره الأسود فجر 11 كانون الأول (ديسمبر) 2019م، ليوقظ  بشرى الطويل ووالدها الذي لم يمض على الإفراج عنه من سجون الاحتلال سوى ستة أيام فقط، فتح أهل البيت الباب لتكون الهدية قنبلة "صوت"هدد أحد الجنود بإلقائها في صالة استقبال الضيوف.

الشيخ جمال الطويل ينفعل غاضبًا في وجه ضابط الاحتلال: "أنتم حكومة ساقطة"، بشرى تجلس والدتها المريضة على الكرسي تحاول تهدئة الأمور، وبعد تفتيش دقيق للمنزل مدة ساعة قلبه "رأسًا على عقب" جلس الضابط أمام الشيخ الطويل وسأله:

- أنت لما كنت في المعتقل كان في حد بالبيت؟

- بشرى ما عندها شي ... هي صحفية (...) نحن عائلةً نرفض الاعتقال؛ أعطها استدعاء، لو أردت.

- لم نأت بكل هذه القوة لأقول استدعاء، هذا "اعتقال".

هنا؛ لا فرح يكتمل، ففي يوم الإفراج عن الأب تعتقل الابنة، وقبل الإفراج عن الابنة يعتقل الأب، وهكذا تدور دائرة لا نهاية لها، فلا لقاء داخل الأسر ولا خارجه.

 بشوق ترقبت بشرى انقضاء عام ونصف على أسر والدها الأخير، وبفرحة لا وصف لها نشرت صورة (سلفي) بهاتفها المحمول على صفحتها الشخصية يوم الإفراج عنه تجمعها بوالدها، يومها رسمت ملامحها ابتسامة مشرقة، اعتقدت أنها "نهاية الآلام والفرقة"، قبل أن تُعتقل وتبدأ رحلة أسر "رابعة" استمرت ثمانية أشهر، إذ جدد لها الاعتقال "الإداري" مرتين.

في 9 تموز (يوليو) 2020م لما اقتربت محكومية بشرى على الانتهاء اعتقل الاحتلال والدها الذي بلغ مجموع سنوات اعتقاله 14 عامًا، قبل أن يفرج عن بشرى في 28 من الشهر ذاته.

ثمانية أشهر متواصلة أمضتها الأسيرة المحررة بشرى الطويل داخل سجون الاحتلال، واجهت ضغط مخابراته، مواقف عدة وتفاصيل كثيرة، وأحداث فيروس "كورونا"، قصت بشرى لصحيفة "فلسطين" تفاصيل تجربة الأسر "الرابعة" لابنة عائلة يحرم الاحتلال الفرح عليها، لترويها لكم.

"اصطحبت مقيدة اليدين معصوبة العينين إلى مركز توقيف بقضاء القدس، وفي داخل الغرفة حاولت إحدى المجندات الاستهزاء بي بتصويري، كنت ألاحظ ذلك فأغير وجهة جلستي قدر الإمكان، وبعدها نقلت لمعسكر "عوفر" لتستجوبني المخابرات" تبدأ بشرى من اليوم لأول لها.

التفتيش العاري

لم تكن أسئلة ضابط المخابرات تشغل بال بشرى، ولا مدة الاعتقال، بل تريد أن تطمئن على صحة والدتها، تخشى أن يكون مكروهًا ما حدث لها،  "في التحقيق فتشتني تفتشيًّا عاريًّا ثلاث مجندات، وكررن ذلك قبل دخولي لمقابلة المخابرات" بتنهيدة اختصرت كل أنواع القهر قالتها، وهي تضع علامة تعجب على غياب الضمير وحقوق الإنسان.

"حاولت مقاومة التفتيش العاري -ما زالت تستذكر ما جرى- سألت المجندة: هل تقبلين هذا لنفسك؟!، لكنها قابلت السؤال بصمت (...) هم يحاولون معاقبتنا بذلك، ويدعون أنه قانوني مع أن الاحتلال يستطيع الاكتفاء بعرضنا على أجهزة تستكشف ما بحوزتنا من أجهزة وإعطاء إشارة بذلك".

بعد ثلاث ساعات بـ"الزنزانة"، وقبل الاستجواب والدخول لغرفة التحقيق سمح لها ضابط الاحتلال بالحديث مع والدتها، من الهاتف كان صوت الأم يعطيها شحنات إضافية وصبرًا كانت بشرى بحاجته: "لا تقلقي علي، المهم أنت كوني قوية، واصبري"، انتهت المكالمة، التفتت بشرى إلى الضابط وهي تمسح دموعًا غلبتها في محادثتها مع أمها، مررت أصبع يدها على عينيها ساحبة كل الدموع ورمتها على الأرض، متحدية إياه: "كانت دموع قلق على أمي، وإياك أن تفكر أنها ضعف".   

- عرفي نفسك.

- اعتقلتموني وأنتم تعرفون من أنا.

تعلق بشرى على تفاصيل الحوار مع الضابط وسؤاله المستفز عن اسمها: "لأول مرة كنت محتدة معه، كنت دائمًا ألتزم الصمت، لكن في هذا الاعتقال لم أستوعب أن أعتقل خلال دقائق، وأجد نفسي بعد ساعات قليلة بعيدة عن الأهل والجمعات العائلية".

الحوار محتدم، ضابط الاحتلال يعرض صورًا لبشرى خلال مشاركتها في اعتصامات، ومؤتمرات، ومع عائلات أسرى، يريد منها تأكيد أنها هي، لكنها ردت: "هذه ليست أنا؛ هي أجمل مني".

الضابط ينفعل غاضبًا: "هيك يعني؟!".

بشرى ترد بهدوء: "أي شخص يمكنه عمل حساب في "فيس بوك" ونشر صور شخص آخر".

"أنت مؤثرة بمنظمة معادية، لديك فئة تتابعك، وتحبك" يوجه الضابط كلامه لها.

"شر البلية ما يضحك" ابتسمت، حائرة في ردها: "أوصل الحال أن نحاسب على محبة الناس لنا؟!".

- إن كانت محبة الناس تهمة؛ فلنا الفخر ولكم العار!

وزادت فوق الجواب جوابًا: "إني "لبؤة ذاك الأسد"، ابنة الشيخ جمال الطويل، الذين تعتقلونني للضغط عليه، كما فعلتم عام 2010م حينما اعتقلتم أمي، لإجباره على ترك رئاسة البلدية مع أنه حصل على الأغلبية، لكن هنيئًا للثابتين الصابرين".

أمام ردها، الضابط بدا غاضبًا، وبدأ إلقاء وابل من الشتائم، وهي هادئة، بعدما أخرجت ما بجعبتها في هذه الجولة.

4 أيام في الإضراب

في سجن "هشارون" أضربت بشرى في أول أيام أسرها أربعة أيام متواصلة عن الطعام والماء، ومعروف في الأسر أن الإضراب في فصل الشتاء له انعكاسات صحية، تستحضر هنا "الضغط الإيجابي" الذي مارسته بعض الأسيرات عليها لفك الإضراب: "نصحنني أن هناك صعوبة في إضراب الشتاء، خاصة أن الأمور قد تمتد عشرين أو أربعين يومًا، حتى إن والدي الذي التقيته في قاعة المحكمة قال لي وهو قلق جدًّا: (طول بالك واصبري)".

عاشت "بشرى الطويل" مدة انتشار فيروس "كورونا" وفيها انقطعت الزيارات عن الأسرى، ولقاء المحامين، تقول: "مرت مدة انتشار الفيروس صعبة علينا، كنا نسمع الإذاعات فقط ويصلنا بعض الأخبار، وبحجة كورونا اتخذت إدارة سجون الاحتلال إجراءات بحق الأسرى، كالمنع من الزيارة".

صوتها القادم عبر سماعة الهاتف، يعلق بسخرية بعامية: "أصلًا إحنا لا بنشوف الأهل ولا المحامين، لأنه في عازل زجاجي في أثناء الزيارة".

"كورونا كان شماعة استخدمها الاحتلال لتنفيذ إجراءات بحق الأسرى" تقول عن إجراءات الاحتلال، مستدركة: "لكن هذه المحنة قربت بين الأسيرات، وحدث توافق في قسم الأسيرات لم يحدث منذ سنوات".

إهمال متعمد

هل كان هناك تعقيم بالفعل للسجون؟، ترد: "اقتصر ذلك على المراحيض، ومكان وضع يد السجانة على باب الزنزانة، أو استخدام المفتاح، وكان التعقيم فقط بـ"الكلور"، الذي يستخدمه الأسرى يوميًّا في تنظيف الغرف".

بشرى الطويل، أو "صحفية السجن" في نظر الأسيرات، كانت تواصل الاستماع إلى الإذاعات المحلية ذات "المصداقية العالية للتحقق من الأخبار، لكن الرطوبة وفصل الشتاء حالا دون وصول تردداتها واضحة، تقول: "كنت دائمًا أتابع الأخبار أولًا بأول، وكان سهلًا التحقق من صحة الأخبار من طريق المحامين والأهل، لكن ظرف أزمة "كورونا" صعب ذلك".

في سجن "الدامون" القريب من حيفا، مضت الأشهر الثمانية وحانت لحظات فراق الأسيرات، التفاصيل كثيرة هنا، لكن ما قالته إحدى الأسيرات لها: "إنت أعصابك باردة، وإحنا متأثرين، وخايفين يجددوا "الإداري" بآخر يوم"، كان ما استذكرته في حديثها، تعلق: "أجبتها: لن أعد نفسي محررة، إلا عندما يفك قيدي عند الحاجز وأذهب مع عائلتي".

في صوتها حنين ليس إلى تلك القضبان بل لمن يقبعن داخلها، فقد تركت الأيام مواقف، وتفاصيل لا تنسى ولا تمحى من الذاكرة، والوجدان: "صعب عليك أن تغادر، وهناك أسيرات ذوات أحكام عالية يقبعن خلف القضبان"، تصفه: "هذا شعور مؤلم، لأنهن يترقبن الحرية ويتعطشن لها".

في الأسر قدمت دورات للأسيرات في "التحرير الصحفي"، والتنمية البشرية، ومع غياب المعدات اعتمدت على الشرح النظري، وأحيانًا الخيالي، في تعريف تقنيات التصوير وآليات عمله.

 بلغت سنوات أسر بشرى 32 شهرًا، أي عامين ونصف عام، تحررت في صفقة وفاء الأحرار عام 2011م، ثم أعاد الاحتلال اعتقالها عام 2014م وأمضت عشرة أشهر ونصف شهر، ثم أمضت ثمانية أشهر في الاعتقال الثالث، ومثلها في الاعتقال الرابع، تمني "حبيبة أبيها" النفس أن تكون نهاية الاعتقال، وأن يرفع الاحتلال يده الثقيلة عن عائلة الطويل، ليتركهم يعيشون اكتمال الفرح، ولو مرة واحدة.

 

 

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين