فلسطين أون لاين

​أخيرًا.. المُحرَّرة لمى خاطر تسمع كلمة "ماما" من طفلها يحيى

...
صورة أرشيفية
الخليل-غزة/ نبيل سنونو:

"أعطيني جوال بابا.. شكرًا ماما"؛ بهتت الكاتبة لمى خاطر عندما سمعت لأول مرة كلمة "ماما" من طفلها يحيى، الذي ودعها بحضن اهتزت له مشاعر الملايين العام الماضي عندما همَّ جنود الاحتلال باعتقالها، وكان لم يتجاوز من عمره عامين فقط.

في 24 يوليو/تموز 2018، هرع يحيى إلى باب المنزل استباقًا لوالدته التي كانت تتجهز لرحلة شاقة من الاعتقال، ظانًّا أنه سيرافقها، لكنه لم يكن يعلم أنه سيفارقها لـ13 شهرًا.

عند منتصف تلك الليلة، اقتحم جنود الاحتلال منزل خاطر وسط حركة كثيفة وطلبوا منها وداع زوجها وأبنائها ومن بينهم يحيى الذي كان مستيقظًا، كما فتشوا وصادروا أجهزتها الإلكترونية.

"ظل يحيى منتظرًا وهو يشاهدني أرتدي ملابس الخروج، ولم يعرف أن هؤلاء جنود احتلال، كان يعتقد أنهم أناس عاديون وسبقني على اعتبار أنه سيخرج معي، فأمسكت به واحتضنته"، تقول خاطر لصحيفة "فلسطين"، عن الصورة التي ظهرت فيها وهي تشد طفلها إلى حضنها في حين يحاصرهم جنود الاحتلال استعدادًا للتفرقة بينهم.

تحقيق وعزل

اقتاد الجنود، خاطر إلى مستوطنة "كريات أربع" شرق مدينة الخليل، حتى السابعة صباحا، حيث جلست في العراء على كرسي، قبل أن يذهبوا بها إلى "مركز تحقيق عتصيون"، وهناك أدخلوها إلى غرفة صغيرة ووجهها إلى الحائط لثلاث ساعات، ثم اقتادوها إلى سجن عسقلان، للبدء بتحقيق صعب وقاسٍ.

عمد المحققون الاحتلاليون إلى عرض صور يحيى على أمه، قائلين لها، إنه وحده يحتضن الدببة والألعاب بدلًا من أن يحتضنها، ولطالما ركزوا على هذا الجانب، لكنها كانت متخذة على نفسها عهدًا بألا تذرف ولو دمعة "أمام الأعداء" لئلا يظنوا ذلك ضعفًا منها.

هددوها باعتقال أبنائها، ومنهم أسامة (22 عاما) -الذي يقبع الآن فعلًا في سجون الاحتلال- وبيسان، وكانت ترد بسخرية: اعتقلوا يحيى أيضًا ذا العامين!

كانت رحلة الاعتقال تترك في كل محطة أثرًا، سواء خلال التحقيق أو التنقل بين السجون، أو في سيارة "البوسطة" التي تنقل الأسرى إلى محاكم الاحتلال.

وصلت خاطر إلى السجن في عز الصيف، لكن الزنزانة كانت باردة، وبالكاد تتوافر بطانية تضعها تحت رأسها، أما مياه الشرب فكانت صدئة، ودورة المياه في وضع مزرٍ.

ركّز الاحتلال على إبقاء خاطر "مشبوحة" لساعات طويلة على كرسي التحقيق، مكبلة اليدين، محرومة من النوم تقريبًا.

لـ20 ساعة متواصلة أو زد على ذلك في اليوم كانت تخضع للتحقيق، وتهدد بالحرمان حتى من التوجه إلى دورة المياه، لكنها أصرت على حقوقها.

"خلال 20 ساعة تحقيق على الكرسي كان يسمح لي بالذهاب إلى الحمام لخمس دقائق فقط ثم العودة إلى التحقيق، وحتى الصلاة كان من الممنوع أن أتوجه إلى الزنزانة لتأديتها، فقلت لهم: إن هذا معناه أنكم تمنعونني من تأدية الشعائر الدينية"؛ تروي خاطر تفاصيل وجع الاعتقال.

لاحقًا سمحوا لها بفك يديها كلما أرادت الصلاة، شريطة أن تفعل ذلك وهي جالسة على كرسي التحقيق.

عانت خاطر أوجاعًا في الظهر والرقبة، وأحيانا الإغماء، وعندما أخبرت محققي الاحتلال بذلك، قالوا لها: إذا كنت تريدين الراحة والنوم وتتعافين من أوجاع الظهر فإنك تعرفين ماذا يجب أن تفعلي، وكانوا يقصدون بذلك أن تعترف على نفسها بتهم يلفقونها لها.

كانت خاطر تجيبهم: لو وصلت إلى الموت، لا تحلموا بأن أفعل ذلك، أنتم تعتقلونني دون وجه حق.

حتى عيادة السجن لم توفر لها سوى "حبة مسكن"، وكان "الطبيب" فيها يُظهر وكأنه لا يعرف سبب الوجع المتمثل بالتحقيق المكثف والاعتقال، فيما يبدو نوعًا من الامتهان.

تخبط المحققون، في محاولاتهم لإخضاع خاطر، حتى باتوا يحضرون لها مقالات وكتابات قديمة منذ 2001، منها قصيدة رثاء للشهيد يحيى عياش، ووجهوا لها الشتائم.

بحث المحققون عبر محرك البحث "جوجل" عن كتابات خاطر، لرصد كتاباتها ومنها ما يتعلق بتحليل الوضع في الضفة الغربية، لإيجاد ذرائع لمحاكمتها، لكنها فندت هذه الذرائع.

قال لها محقق: يمكن أن ألفق لك تهمة عسكرية، وهددها بأن تقضي كل حياتها في السجن، وأن يبكي طفلها الصغير يحيى على إثر ذلك، لكنها ردت بأنه يهدد بذلك لكونه لا يملك أي دليل ضدها.

"أمومة" من خلف الزجاج

انتهى 34 يوما، والطفل يحيى منقطع عن أمه التي سلبت حريتها، واتخذت محكمة الاحتلال قرارًا بأنه لا تقدم في التحقيق، وحولتها إلى النيابة.

وبعد انتهاء فترة التحقيق عُزلت خاطر في زنزانة لم تكد تعرف فيها أوقات الصلاة إلا من خلال توقيت تقديم الطعام "الرديء" لها.

نقلت لاحقًا إلى سجن "الشارون"، ثم "الدامون" حيث افتتح قسم جديد للأسيرات الفلسطينيات البالغ عددهن نحو 36، قرابة 15 منهن أمهات.

أصدر الاحتلال حكما على خاطر في 10 يونيو/حزيران بالسجن 13 شهرًا، وهذا كان يعني أنها ستفارق أسرتها، وعلى وجه الخصوص فلذة كبدها يحيى كل هذه المدة.

نقض الاحتلال حتى قوانينه التي سنها بيديه، والتي تنص على السماح لذوي الأسير بزيارته كل أسبوعين، إذ منع أسرتها من زيارتها سوى مرة أو ما شابه كل أربعة أشهر، في حين كان أطفالها يحيى وعز الدين ويمان يزورونها "بكفالة" أناس آخرين كل أسبوعين.

تقول خاطر: إن معظم أفراد العائلة يمنعون من الزيارة بذرائع أمنية، مبينة أنها لم تتمكن من رؤية نجلها أسامة سوى مرة واحدة فقط طوال فترة اعتقالها، كما لم ترَ زوجها وابنتها بيسان سوى ثلاث مرات.

وعندما حلت ذكرى يوم ميلادها في السجن، كانت وحيدة لولا أن أحاطت بها الأسيرات اللواتي صنعن لها مفاجأة، وحضروا لها ما يشبه طبق الحلو، وأهدوها من أغراضهن ما تيسر لهن، وكان ذلك يعني لها الكثير.

وما بعث في قلبها فرحا يقاوم الحزن، أنها استمعت حينها عبر الإذاعة الوحيدة المتاحة لها، اتصالات من زوجها وصديقاتها يهنئونها بذكرى ميلادها ويتضامنون معها ويؤكدون أنهم يتابعون حتى أدق التفاصيل.

لكن اقتصر التواصل بينها وبين أفراد أسرتها الزائرين في كل مرة على سماع الصوت عبر الهاتف، في حين يفصل بينهم لوح زجاجي، ولم يُتِح الاحتلال لمدة الاتصال أن تزيد على 45 دقيقة فقط.

وفي الدقائق الأخيرة من الزيارة كان يحيى يتمكن بحكم سنه الصغيرة، من الدخول لاحتضان أمه، لكنه لم يكن أبدًا ينطق بكلمة "ماما"، وأبدى دائما خجلاً منها.

تأثرت خاطر بذلك، فطفلها الذي عرض إخوته صور أمه أمامه وهي في السجن، لم يعرف فعليًّا ماذا تعني كلمة "ماما"، نتيجة فصل السجن بينها وبينه.

أما يمان وعز الدين وإخوتهم لم يتمكنوا أبدا من احتضان والدتهم طوال تلك فترة الاعتقال.

تعتيم مطلق

في أول تموز/يوليو الحالي كتبت خاطر لابنها البكر أسامة رسالة بمناسبة ذكرى ميلاده، لكنه لم يتمكن من قراءتها إذ زجه الاحتلال في سجونه وسط تعتيم مطلق، ومنع من زيارة المحامي.

وقبيل الإفراج عنها في 26 يوليو/تموز الجاري كانت خاطر تشعر بفرحة منقوصة، لأنها تترك خلفها عشرات الأسيرات اللاتي لكل منهن قصة إنسانية، لكن الوجع لم يتجسد في ذلك فحسب، بل بأن "قطعة" من روحها هي أسامة، في السجن أيضًا.

"اعتقاله من الأمور التي أثرت بي، صحيح أن الإنسان يتوقع أن يتعرض أبناؤه إذا ساروا في الدرب السليم، لابتلاءات ومحن لكن يعز عليّ أنه في الشهر الذي أفرج عني فيه يخضع ابني للتحقيق"، تضيف خاطر، التي كانت في مثل هذا الوقت العام الماضي تعاني مرارة التحقيق ساعة بساعة.

أما الطفل يحيى الذي يبلغ الآن من عمره ثلاثة أعوام، فهو شاهد مذ كان في "الكفولة" على جريمة الاحتلال بحق أمه، فقد حاول الأخير اعتقالها سنة 2016 وهو رضيع لا يتجاوز شهرين من عمره، وهو ما اضطر الاحتلال إلى تأجيل اعتقالها آنذاك.

وفي أثناء اعتقالها الأخير كان شوق خاطر إلى طفلها يحيى يلتهب، فالزمن لا يتوقف، وهو يكبر وهي في السجن.

كان يحيى ينتظرها على حاجز جنين الذي يتم الإفراج عن الأسيرات عبره عادة، وأقلتها السيارة وصولًا إلى رام الله ثم الخليل، وعندما شكرها على إعطائه هاتف أبيه، قائلا لها: "ماما"، دهشت.

"سرحت وقلت: كم كبر خلال سنة اعتقالي، لدرجة أنني شعرت وكأنه طفل آخر؛ لأنه بات يتكلم ويتفاعل ويجامل، فتفاجأت بحجم التطور الذي طرأ عليه...".