فلسطين أون لاين

دعا عائلته إلى الغداء فلبّوا نداء "الجنازة"

تقرير شهيد الواجب "خالد مصلح".. فارسُ المهمات صاحبُ القلب الرحيم

...
جنازة الشهيد خالد مصلح- أرشيف
غزة/ يحيى اليعقوبي:

"سلم حالك؛ مش راح نعملك حاجة!".. بثقة حاول الملازم بجهاز الشرطة خالد محمد مصلح (27 عامًا) طمأنة المطلوب للقضاء الفلسطيني "ع. ن"، وتسليم نفسه في أثناء تنفيذ مهمة شرطية صباح السبت الماضي (10 يونيو/ حزيران)، لكنّ المطلوب لم يستجب لهذا النداء ولاذ بالفرار، ليدركه الملازم مصلح الذي يمتاز بسرعة وبشجاعة وجرأة.

توقَّف المطلوب عندما أدرك أنه لا مفر له من الملازم، فاستدار وهو يحمل مسدسًا جهّزه مسبقًا للقتل، وأطلق ثلاث رصاصات "غادرة"، استقرت إحداها في بطن مصلح، ورصاصتان بمنطقة الخاصرة (جانب البطن)، فسقط مدرَّجًا بدمائه، ونُقل إلى المشفى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وألقى أفراد الدورية القبض على القاتل.

وعندما وصل والده "محمد مصلح" المشفى بعدما أُخبر بتعرض نجله لإصابة "بسيطة"، طُلبَ منه التوجُّه نحو ثلاجة الموتى والشهداء، ليجد ابنه شهيدًا، ساكنًا بلا نبض وبلا روح، لم يستطع حبس دموعه التي جرت على وجنتيه، وغاب في صمتٍ أمام قسوة الرحيل.

شهيد الواجب

يحاول والده مسح دموع سالت مثل جرح غائر لا يجف، تستمع "فلسطين" إلى قلبه المحشو بالقهر وحنجرته المكلومة: "أفتخر أني والده، لأنه شهيد الواجب الوطني، كان كالأسد الهصور، وبنفس الوقت رحيم على الناس، حتى أنه فرد ذراعيه للمجرم، وقال له: "لن نؤذيك" فغدره بثلاث رصاصات بواسطة مسدس، فارتقى شهيدًا".

تعيد عيناه المُحمرة بالدموع وبجمرات غاضبة رسم المشهد الأخير لنجله بالبيت: "قبل يوم من استشهاده حضر زفافًا عند أنسبائه، وجاءني يومها بالليل، وأخبرني أنه دعا شقيقاته في اليوم التالي للمهمة، ورتّب نفسه لاستقبالهنّ لأنّ أبنائي يحبون التواصل فيما بينهم، كما ربّيتهم على ذلك".

"خالد غالي، ورحيله صعب علينا، ما هونه حجم الالتفاف الشعبي والحكومي، الذين رفعوا من شأنه وأثلجوا قلوبنا"، تبلل الدموع صوت الأب المكلوم مطالبًا بسرعة تنفيذ القصاص والعدالة؛ "حتى تبرد جمرات القلب".

التحق الشهيد مصلح بجهاز الشرطة ضمن مرتبات التدخل وحفظ النظام قبل سبع سنوات، وهو متزوج ولديه ثلاثة أولاد محمد (4 أعوام) ومحمود (3 أعوام) وعلاء (عام)، عرف عنه شجاعته وتفانيه في العمل، كان طموحًا في حياته، على الرغم من انقطاعه عن الثانوية العامة منذ عدة سنوات، إلا أنه حصل عليها العام الماضي، وبعد نجاحه بـ "التوجيهي" التحق بجامعة الأمة.

أراد خالد أنّ تُوضع نجمتان على كتفه، وأن يصبح ضابطًا في جهاز الشرطة، لكنه لم يكن يدري أنه سيحصل على وسام "الشهادة"، وأنّ اسمه سيصبح رمزًا لـ "التضحية والفداء"، وتمنى أن يسافر خارج القطاع، لكنّ روحه عرجت إلى السماء.

"قلب عصفور"

صاحبُ العينين الخضراوين والشعر المائل للون الشمس، إلى جانب هندامه الأنيق، وقامة طويلة، وبنية جسد قوية، شجاع لم يعرف الخوف، وسريع لم يفلت من قبضته أيّ مطلوب، على الرغم مما سبق تمتع بـ "قلب عصفور" من شدة رحمته وعطفه.

يقرُّ مصلح الأب الذي لديه 14 ابنًا نصفهم ذكور، بخوفه على نجله خلال الأحاديث بينهما عن المهمات التي يذهب إليها، قائلًا: "كان يحدثني كيف يمسكون بالمطلوبين الذين يختبئون بخزانات المياه، ويطاردونهم فوق أسطح المنازل عندما يحاولون الهرب، أو بداخل أثاث البيت".

اقرأ أيضًا: "الداخلية" تنشر تفاصيل حادثة استشهاد الملازم خالد مصلح

يتمم: " كنت أخاف عليه لشدة جرأته، وأحيانًا أُخاصمه بسبب خوفي عليه، لأنني طلبت منه التريُّث في المهام وعدم الإقدام، فكان يقول لي: "لا يوجد بيني وبينهم عداوة، إننا نُنفّذ حقوق العباد وهذا أمر الله".

لم تكن حادثة الاستشهاد هي المهمة الخطيرة الأولى التي تعرض لها مصلح، فتعرض صاحب "القلب الحديدي" كما يصفه والده لاعتداءات وإطلاق نار قبل عام، كان قريبًا خلالها من الموت "لولا لطف الله".

يسكن الوالد في مخيم المغازي وسط قطاع غزة، أما ابنه خالد فيستقل عن والده بالسكن بمخيم النصيرات، على الرغم من بُعد المسافة إلا أنه كان يوميًّا يزور والده.

صمت والده بعد أن غلبته الدموع، ثم كسر هذا السكوت: "لا يحب مفارقتي، فأحيانًا كنت أنصحه بادّخار ثمن المواصلات، فكان يقول لي "مشتاقلك بقدرش أبعد عنك"، فدائمًا نجلس معًا ونقوم بالخروج للتنزه، والتشارك بالشواء وطهي الطعام وممارسة حياتنا كأي عائلة سعيدة".

منذ انتهاء أيام العزاء لا زال طفله البكر محمد (4 سنوات) ينتظر عودة والده الذي وعده بالخروج للتنزه لحظة عودته من العمل، يقف أمام صورته باكيًا ببراءة مستجديًا عودته من "الجنة".

قبل أربع سنوات جاء زميل رئيس قسم التنفيذ في مركز شرطة النصيرات النقيب علاء الهور، ومدح في صفات خالد مصلح، فكان ذلك حافزًا لأن يطلبه من قوات التدخل وحفظ النظام، إلى مكتب شرطة التنفيذ المُخوَّل بإلقاء القبض على المطلوبين من لصوص وأصحاب الذمم المالية والمحاكم والغرامات.

عرف الهور الذي تحدث لصحيفة "فلسطين" عن الشهيد، أنه صاحب ابتسامة عريضة، ذو وجهٍ بشوش، كان مثالًا للضابط الملتزم الشجاع، المقدام المثابر، يقول: "أخونا الشهيد، صاحب صاحبه بمعنى الكلمة، فأي شخص يريد منه خدمة فيحاول تلبيتها قدر المستطاع، كان طموحًا وأراد الارتقاء بعمله، وأن يكون ضابطًا، لكنّ الله اصطفاه لمنزلة أعلى".

"مجرد وجود خالد بالدورية فإنه يعطي الأمان لباقي العناصر"، يرجع مسؤوله هذا الأمان إلى بنية جسده القوية وسرعته، يردف: "لا أتذكر أنه لاحق مطلوبًا، ولم يلقِ القبض عليه ويمسكه لما يتمتع به من بنية قوية ورشاقة، وشهيدنا كان قويًّا إلا أنه له قلب كـ"قلب عصفور" في معاملة الناس، جمع بين المتناقضات، بين اللين والشدة، فكان رحيمًا مع الغارمين، وشديدًا مع أصحاب السوابق والهاربين من العدالة".

لم تكن مهمة خالد الأخيرة إلقاء القبض على المطلوب "ع. ن"، بل كان مكلفًا بمهمة أخرى، يوضح الهور، قسمت العناصر إلى دوريتين لتنفيذ أوامر توقيف، ولم يكن اسم القاتل ضمن المهمة، غادر مصلح مكتبي، ثم عاد وقال لي: إنّ "العناصر كافية لإلقاء القبض على "ع. ن" الذي يسكن في مناطق أحراش، وصعب محاصرته إلا بعدد كافٍ، فعرض تنفيذ المهمة فوافقت، معلقًا: "سبحان الله وكأنه سيق إلى قدره".

يكمل: "أخبرته أنني سأحوّل دوامه في اليوم التالي إلى مناوب مسائي، فرفض وقال لي: "بكرا عازم خواتي، وبدي أشتغل صباحي".

تعج ذاكرة الهور بمواقف كثيرة دلّلت على شجاعة مصلح، ينتقي إحداها بأنه في إحدى المهمات، وأمام اختباء أحد المطلوبين بشقة بأحد أبراج النصيرات، قام مصلح بتنفيذ مهمة "إنزال" من سطح البرج إلى الشقة وألقى القبض عليه، خاتمًا: "لن نوفيه حقه، وعزاؤنا أنه سار إلى ربه بخُطًى واثقة، ونُطالب القضاء بإيقاع أشد العقوبة على القاتل المجرم".