لعشرة أيام ظل القلقُ يسكن قلبها، تداهمها أسئلةٌ بقيتْ إجاباتها مفتوحة لم تعثر عليها وهي تنتظر أن يعود زوجها عبد الفتاح خروشة (49 عامًا) للبيت، الذي غادره ظهر الـ 26 فبراير/ شباط 2023؛ لـ "البحث عن عمل" كما أخبرها يومها، علمًا أنه تحرر من سجون الاحتلال قبل شهرين ونصف بعدما أمضى نحو أربع سنوات.
عاشتْ خروشة التي تكنى "أم خالد" أيامًا عصيبة راوغ الأمل كل محاولاتها الوصول لخبرٍ يطمئنها على زوجها، حتى ظهر الثلاثاء الماضي حين اقتحم جيش الاحتلال مخيم جنين بشكل مفاجئ معلنًا "اغتيال منفذ عملية حوارة عبد الفتاح خروشة".
وقفت في ذهولٍ وهي تقرأ الخبر وتعيده مرة واثنتين، تتفقد الصور لعلها تكون"تشابه أسماء أو خطأ ما" قبل أن تُسلّم قلبها لأمنية تأخرت ثلاثين عامًا عندما أخبرها في بداية حياتهما الزوجية أنه يريد "الشهادة" ولم تدرِ أنّ أمله بتحقيق أمنيته لم يخفت بمرور السنين، عندما رأته مسجًّى بدمائه في ثلاجات الموتى والشهداء.
عانقته وبكت في وداعه، كما فعلت بنفس العناق عندما استقبلته محررًا من سجون الاحتلال قبل شهرين ونصفٍ.
قبل مغادرة الوداع
تربط على جرح قلبها بكلماتٍ تتكئ على عكار الصبر في مستهل حديثها لصحيفة "فلسطين"، تطلُّ من نافذة الحزن على آخر مشهد جمعها بزوجها: "يومها صلَّى الفجر وظل متواجدًا في البيت وقرأ القرآن وجلسنا نتحدث كأيّ يوم، ولم يبدِ أيّ تصرف أو يترك تلميحًا أو وصيةً حول عزمه على تنفيذ شيء، حتى خرج من البيت وقال لي: "بدي أدور على شغل".
لم يُطلعها على سر أقفل مفاتيحه داخل قلبه وأخفاه عن أقرب المقربين إليه، لكن مشاعر الفرح قفزت من قلبها بعد إعلان مقتل اثنين من المستوطنين في "حوارة" وجاءت ردًّا على مجزرة نابلس التي سبقتها بأيام بقيام قوات الاحتلال باغتيال عشرة مواطنين ومقاومين، دون أن تعرف أنّ المنفذ زوجها.
تنتشل بقية التفاصيل، وتحاول لملمة المشاهد المتناثرة في زحام ذاكرتها: "كنت أعتقد أنه خرج مع أصدقائه وحدث تفتيش على أحد الحواجز وقام الاحتلال باعتقاله، أنتظر أن أُبلّغ بأمر اعتقاله فتفاجأت بخبر استشهاده".
تخرج الكلمات من قلب صابر محتسب: "كنت زوجة أسير والآن زوجة شهيد، الحمد لله طلبها ونالها".
اقرأ أيضًا: قمع جنازة "خروشة".. استهداف مباشر يرتكبه أمن السلطة ويمسُّ الشهداء
لم يسلم بيتها من اعتداءات جيش الاحتلال، تروي بغصة قهر: "جاؤوا واقتحموا البيت، قاموا بتكسير زجاج البيت ومحتوياته، اعتدوا على ابني محمد (25 عامًا) وكسروا يده ومزقوا ملابسه بوحشية، حاولت التدخل لإفلاته من قبضة جنود الاحتلال، لكنهم اعتقلوه، والآن لا أعرف ماذا جرى معه وتفاصيل حالته".
فرحة لم تكتمل
بعد أربع سنوات أمضاها في سجون الاحتلال، لا يغادر مشهد استقباله قبل شهرين ونصف ذاكرتها: "أقمنا له حفلًا وكانت فرحتنا لا توصف، ولم ندرِ أنه استعجل الرحيل، زوجي صوّام قوام، دائم ذكر الله يحافظ على صلاته وعبادته، اسأل عنه أيما تريد".
وإضافة لالتزامه الديني التصقت به صفاتٌ عايشتها زوجته، تقرُّ وهي تلقي السلام على روحه "امتاز بالطيبة والحنان والصدق في المعاملة، أخلاقه عالية، ربَّى أولاده على النشأة الإسلامية وحفظ القرآن، كان شجاعًا مقدامًا لا يهاب أحدًا".
ارتبطت بزوجها طوال ثلاثين عامًا، ورغم طول المدة وما تخللها من أسر واعتقالات من الاحتلال والسلطة، وتضييق إلا أنّ أمل ارتقائه شهيدًا ظلّ حيًّا في قلبه، لم يمنعه عن تحقيقه تقدمه في السنّ واكتساء رأسه بالشعر الأبيض، تردف: "لم يخطر ببالي أنه سيُنفّذ عملية بعد ثلاثين عامًا، وهو لم يمض على تحرُّره شهرين ونصف ولم نشبع من وجوده معنا".
يسكن الشهيد بمخيم عسكر للاجئين الفلسطينيين شرق نابلس، ولديه خمسة أولاد وهم خالد، ومحمد، وقسام وغادة وندى، وشقيقه سميح استُشهد إبان الانتفاضة الأولى عام1987، بعد أن أطلق جنود الاحتلال النار عليه قرب المخيم وهو داخل مركبته، ولم يستسلم فقام بدهس عدد من الجنود قبل أن يستشهد.
سلبت سجون الاحتلال من خروشة ست سنوات من عمره، توفي والده عندما كان بالأسر عام 2004، ولم يستطع توديع والدته التي توفيت قبل عامين لأنه كان بالأسر وتواجد معه بالسجن ابنه محمد الذي اعتقله الاحتلال لعامين.
جثمان لم يسقط
رغم اختناق قلبه، وحزنه الشديد على رحيل والدته دون أن تُكحّل عينيها برؤيته إلا أنه طلب من الأسرى إكمال فعاليات كانت مقررة في ذلك اليوم وعدم إلغائها، موقف تستحضره: "رفض إيقاف الأنشطة لإيمانه بالقضاء والقدر، وفي نفس الوقت أقام لوالدته عزاءً في سجنه كان ابنه محمد معه وكأنه خفّف وطأة الخبر على قلب والده".
حرص على تعليم أبنائه قيادة السيارات كونه سائق شاحنة، ولم يعفِ زوجته من التعليم، يشهد له موقف تنفض عنه غبار النسيان: "كان يأخذني معه ويعلمني قيادة المركبة ولم يمانع حصولي على رخصة".
ومن الأشياء الجميلة التي تُزيّن حديثها أنه كان يقرأ لأولاده قصص الأنبياء، ويشرح لهم الأحاديث النبوية بعدما حصل على السند في الحديث الشريف عن النبي (صحيح البخاري).
غاب "أبو خالد" عن مائدة الإفطار في بيته في شهر رمضان المبارك طوال أربع سنوات، الفرق أنه كانوا أحيانًا يسمعون صوته ويعطيهم الأمل، هذا الصوت سيغيب في رمضان القادم وستبقى صورته تطلُّ عليهم من الذاكرة، بنبرة تغلبها الحسرة ترثي أمنية لن تتحقّق: "كنا مخططين لأشياء كتير حلوة نعملها، الإفطار، ننزل على الجامع نصلي التراويح".
اقرأ أيضًا: خاص خريشة: قمع السلطة لجنازة "خروشة" محاولة لوأد المقاومة
رحل عبد الفتاح الزوج والجد، لكن بقي الاسم في البيت يتردد، فنجله خالد رزق بطفلٍ قبل عامين أسماه "عبد الفتاح"، وخلال شهرين ونصف جمعته بحفيده علاقة حب لا يمكن وصفها كانت زوجته شاهدة عليها: "كان يلعب معه دائمًا، يشتري له، يجلس في حضنه".
يغلبها الفقد هنا: "لحظة الفراق صعبة على أيّ إنسان، لكن لو فرّقتنا سنوات فملتقانا الجنة".
لأجل "علم" لم تهب أجهزة أمن السلطة من حُرمة الموت، قواتٌ مدججة تحارب جثمان الشهيد عبد الفتاح لفّته رايةٌ خضراء، سقط الجثمان أثناء التشييع، وسقطت تلك الأجهزة من عين زوجته كما سقطت من عيون الكثيرين من أبناء الشعب، مشهد تحوله لتساؤل غاضب: "إذا بدنا نعمل ببعض هيك شو ضل للاحتلال!؟".