فلسطين أون لاين

"الجنيدي" رحل بـ3 بصمات في جسده

تقرير "بسلمش حالي".. حينما فضَّل "حسام سليم" الشهادة على الاستسلام

...
صورة أرشيفية
نابلس-غزة/ يحيى اليعقوبي:

"بسلمش حالي أنا وأخوي جنيدي، والله لا يسامح كل حدا باعنا".. رفضٌ للاستسلام، وجرأةٌ في المواجهة، كلمات ممتلئة بالإيمان واليقين بالنصر، وإقبالٌ على الموت والشهادة، انبعثت من أنفاس ثابتة تخوض معركة شرسة فضّل فيها المطارد حسام سليم (24 عامًا) الموت عزيزًا حرًا على الاستسلام لعشرات الجنود المدججين بالسلاح.

في رسالة صوتية لم تزد على عدة ثوانٍ، بعث بها سليم في أثناء محاصرة قوات كبيرة من جيش الاحتلال منزلًا تحصن فيه برفقة محمد الجنيدي (23 عامًا) بالبلدة القديمة بمدينة نابلس، وخاضا خلالها اشتباكًا مسلحًا استمر أربع ساعات وانتهى بارتقائهما شهيدين.

"بدنا نسلم على الشهداء، وسامحونا، وما تنسوا وصية (الشهيدين) وديع والنابلسي: أنا بحب إمي، ما حدا يترك البارودة"، لا توجد أصدق من الكلمات التي يُعبّر فيها الشهداء عن أنفسهم، يرسمون بدمائهم وكلماتهم طريق الحرية.

اقرأ أيضاً: محدث 11 شهيد و102 إصابة بينها 6 حرجة خلال اقتحام قوات الاحتلال لنابلس

خرجت تلك الكلمات على شكل وصية مستعجلة فرضها الظرف الطارئ، خلت من هدوء الإيقاع وترتيب الكلمات، أحيا سليم وصية رفيقه إبراهيم النابلسي، في وصية امتزجت بين الغضب والثورة على المحتل وكل من تخاذل وفرط في الوطن، وفي التعبير عن حبه لأمه ووطنه.

بدء المطاردة

بدأ الاحتلال بمطاردة الشهيد حسام سليم، عندما نسب له برفقة مقاومين آخرين، الوقوف وراء عملية قتل الجندي الإسرائيلي عيدو باروخ قرب مستوطنة "شافي شمرون" شمال غرب نابلس، بعد إطلاق النار عليه من سيارة مسرعة، في 11 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

ترعرع الشهيد سليم في مدينة نابلس، وكبر على صيحات أناشيد الثورة: "كبروا الثوار يا جبل النار وصاروا ثوار"، غادر المدارس قبل إكمال الثانوية العامة لمساعدة أهله، وعمل في عدة مهن لإعالة أسرته.

على صفحته الشخصية على "فيسبوك"، تكفي مرورك على ما كتبه في ملفه الشخصي كتعريف عنه قائلا: "تخيل تموت مش شهيد، اللهم أكرمني" لتعطيك لمحة عن أمنية الشاب الثائر محمد الجنيدي التي لم تفلت من رسالته الصوتية الأخيرة وهو يحزم حقائب الرحيل في أثناء المواجهة: "أنا طلبت إلى نلته، مبسوط لأني بموت بالشهادة، ادعولنا وسامحونا".

بسلاح محلي الصنع من نوع "كارلو" خاض الشهيد الجنيدي ملحمة بطولية، واجه فيها أكثر من 150 جنديًا من القوات الإسرائيلية الخاصة التي اقتحمت نابلس في وضح النهار، بعدما صادرت أجهزة أمن السلطة سلاحًا من نوع m16، وعلى الرغم من اختلاف موازين المعركة، واجه الشابان قوات الاحتلال أربع ساعات حتى انهالت عليهما القذائف الصاروخية.

لم يولد الجنيدي في مدينة نابلس التي عاد إليها قبل خمس سنوات قادما من الأردن التي ولد فيها. فترة كانت كفيلة بأن يتعلق قلبه بالمدينة وكأنه ترعرع ونشأ فيها، وخلالها تعرض للاعتقال مرتين أمضى فيهما ما مجموعه ستة أشهر في سجون الاحتلال.

خلال مسيرة مقاومة ليست طويلة في مقاومة الاحتلال، أصيب الجنيدي ثلاث مرات، كان في إحداها قريبا من الموت عندما أصيب برأسه في سبتمبر/ أيلول الماضي، بعد أن تعرض هو ومقاوم آخر لكمين إسرائيلي جنوب نابلس، وأصبح من أبرز "المطلوبين" في الفترة الأخيرة لجيش الاحتلال، الذي لا يزال يعتقل شقيقه جُنيد منذ أربعة أشهر.

صورتان وفارق زمني

في مشهد التشييع، عادت والدة الشهيد إبراهيم النابلسي لتشهر سيف ابتسامتها في وجه المحتل في عذوبة رقيقة في مشهد حزين تبتسم وهي تحمل جثمان ابنها الذي لم تلده، عندما رفعت نعش الشهيد الجنيدي ملبية وصية قال لها فيها: "زفيني متل ما زفيتي إبراهيم".

صورتان الفارق الزمني بينهما لم يتجاوز ستة أشهر، ظهرت في الأولى وهي تحمل نعش فلذة كبدها إبراهيم وفي الثانية تحمل رفيق ابنها، تقول والدة الشهيد النابلسي لصحيفة "فلسطين": إن "وصايا الشهداء لا يصونها إلا الشرفاء، فهؤلاء أولادنا، أوصاني محمد أن أزفه كما زففتُ ابني إبراهيم، وأتمنى أن أكون أوفيت الدين له".

اقرأ أيضاً: بالفيديو والصور في جنازة مهيبة.. الآلاف يُشيّعون شهداء مجزرة نابلس

عايشت النابلسي صداقة نجلها مع الجنيدي، تتوقف عندها وهي تلقي السلام على روحيهما "لا أنسى ما قاله لي محمد: "كل شاب له أم، وأنا محظوظ فلدي أُمّان اثنتان"، تعرفت إليه عندما أصيب إبراهيم، وكان رفيق دربه، كان حنونا طيبا لدرجة لا توصف، والطيبة والحنان صفتان تميز بهما كل الشهداء، جادوا بأرواحهم فكنت أزوره عندما أصيب".

ورغم فترة وجوده القليلة في نابلس لم تستغرب والدة النابلسي سبب انخراط الجنيدي في المقاومة، قائلة: "كانت أمه خلال وجودهم بالأردن تحدثهم عن فلسطين والمسجد الأقصى ونابلس وتغرس فيهم حب الوطن (..) هؤلاء الشهداء اختاروا طريق الجهاد وتعاهدوا أمام الله أن يكمل من بقي حيا منهم طريق المقاومة، وصانوا العهد وطاردوا الاحتلال ولم يكونوا مطارَدِين".

يُسلّمُ الشهداء الراية لغيرهم، مؤكدين أنه في كل مرة يقتلُ فيها الاحتلال مقاومًا، هو في الحقيقة لا ينهي حياته بل يعلن ولادته في قلوب أبناء شعبه، فيأتي بطلٌ آخر يتسلم راية الثورة التي لا تنطفئ نارها.