أكثر من 15 عاماً والمقدسي فريد جابر "68 عاماً" يجول بين أروقة قضاء الاحتلال الإسرائيلي لترخيص بناء منزله لكن دون جدوى، ليُضطر في النهاية لهدم جزء كبيرٍ من بيته ذاتياً ويعيش بلا مرافق، خشية تكبد غرامات باهظة لا يطيق دفعها لكبر سنه وعجزه عن العمل.
فالبيت الصغير الذي يؤوي جابر وزوجته المصابة بعجز كامل عن الحركة أصبح "خرابة"، إذ اضطر جابر لهدم أغلب الغرف بما فيها المطبخ، تفادياً للغرامات الباهظة، وخشية أنْ تطلب منه بلدية الاحتلال في القدس هدم ما تبقى منه!
لم تتمالك غادة جابر أعصابها وهي ترى البيت الذي يؤويها يتحول لركام على أيدي زوجها وأشقائه، ما أدخلها في حالة من الانهيار العصبي، "لقد ذهب شقاء العمر في لحظات، كما أن حالتي الصحية لا تمكنني من التنقل بين البيوت وكذلك حالتنا المادية".
وتتملك الحسرة قلب جابر وهي لا تعرف اليوم أين يمكنها أنْ تذهب، فليس لديها سوى ابنة واحدة متزوجة، وهذا المنزل هو كل ما تملك في هذه الدنيا، ودفع زوجها في سبيله أموالاً فوق طاقته للاحتفاظ بالمكان الذي عاشا فيه عقوداً لكن دون جدوى!".
أما زوجها فريد جابر فمنذ أكثر من 15 عاماً وهو يجول في أروقة محاكم الاحتلال الإسرائيلي للحصول على رخصة لتوسعة بيته الضيق، لكن دون جدوى، وعندما ضاقت به السبل وخشي من أنْ تغدر فيه بلدية الاحتلال في القدس، رغم دفعه عشرات آلاف الشواقل قام بهدم جزءٍ من منزله ذاتياً.
يقول: "قمتُ بالتضييق على نفسي بيدي استباقاً لأي قرارات منهم، فمنذ عام ونصف قمتُ بهدم "التوسعة" التي لا تتجاوز مساحتها (120 x 120) سنتيمتر مربع".
فمنزل جابر القائم في وادي الجوز يُطل على المسجد الأقصى مباشرة وتفصل بينه وبين البلدة القديمة مسافة 200 متر، ويتهدده مخطط استيطاني إسرائيلي سينتزع عشرة دونمات من أراضي المقدسيين في المنطقة لغرض تخصيصها لخدمات عامة!
يعقب جابر بالقول: "هم يدركون أننا كمقدسيين أوضاعنا المادية بالغة الصعوبة، ولولا أننا ورثنا هذه الأراضي أباً عن جد لما استطعنا يوماً امتلاك أرضٍ في القدس المحتلة، فهنا نشأنا وترعرعنا، نذهب للأقصى سيراً على الأقدام، كل ما نريده هو قضاء ما تبقى من عمرنا بجوار الأقصى".
ويتابع: "ألا يكفي أنهم يحرموننا من التوسع وتجديد البناء، فأنا نصف بيتي مسقوف بـ"الزينقو"، ويحرموننا من ترخيص بيوتنا ثم يداهموننا بقرارات هدم وإخلاء بعد أن يستنفذوا كل ما في جيوبنا من مال!".
فقد فاجأت بلدية الاحتلال المقدسي جابر بقرار هدم لمنزله خلال اثني عشر يوماً رغم أنه أزال ما تعتبره هي "بناء غير مرخص" ورغم الوضع الإنساني الصعب له كشيخ كبير ولزوجته العاجزة، إلا أنهم صمموا على هدم منزله؛ ما يعني بقاءه في العراء!
طريق مسدود
ويمضي إلى القول: "هم لا يعرفون من الإنسانية شيئاً، فقد رفضوا التماس المحامية التي أوكلتها لإيقاف هدم البيت بسبب حالتي الصحية أنا وزوجتي وصمموا على هدمه، فشرعتُ بهدمه حتى لا أفقده كله".
وينتاب صوت جابر الحزن وهو يتحدث عن "الوضع المسدود" الذي وضعته فيه سلطات الاحتلال في القدس، "فلا هم راعوا حالتي الإنسانية، ولا حتى أمهلونا وقتًا لنتدبر سكناً آخر، وهم موقنون أنه من المستحيل أنْ يتمكن مقدسي من تملك بيتٍ في المدينة، فما بالك برجل عجوز عاطل عن العمل؟!".
ويبين أن حجم المرارة الذي سكن قلبه وزوجته لا يوصف وهم يرون "شقا العمر" يُهدم أمام أعينهم وأولها نوافذه المطلة على الأقصى التي كانوا يُؤنسون بها قلوبهم كلما ضاقت بهم الحال، "ليس هناك عقوبة أشد مما مررنا به في العالم، نهدم بيتنا خشية أنْ نتكبد مبلغاً قرابة المئة ألف شيكل حال لو قاموا هم بهدمه، وهو ما لا نستطيع سداده؛ ما يعني أننا سنقضي بقية عمرنا في السجن!".
وتشكل سياسة هدم المنازل الفلسطينية منهجية إسرائيلية قديمة، منذ نشأة دولة الاحتلال عام 1948، فقد دمرت السلطات الإسرائيلية منذ النكبة أكثر من 500 قرية وبلدة فلسطينية.
وقدّر عدد المنازل التي هدمها الاحتلال منذ ذلك الحين بنحو 170 ألف منزل، وفي النكبة نفسها هُجّر نحو مليون فلسطيني من المناطق التي احتلت عام 1948، والذين أصبحوا الآن نحو 7 ملايين في أنحاء العالم.
وتتخذ سلطات الاحتلال عدة أشكال من الادعاءات لهدم المنازل الفلسطينية، أبرزها: عدم الحصول على ترخيص للبناء في مناطق مصنفة (ج)، الهدم بحجة الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية أو وجود المنشأة في مناطق عسكرية، والهدم كسياسة عقاب جماعي في حال تنفيذ عمليات تؤدي لمقتل إسرائيليين.
ويتعدى قرار الهدم في بعض الحالات هدم المنازل إلى فرض حظر أي بناء جديد في موقع المنزل المهدوم ومصادرة الأرض في حالات أخرى.