يضرب بكفه اليسرى على الجهة ذاتها من رأسه، يحاول أن يُلملم الكلمات من ذاكرته المُنهكة بفعل الإصابة، أمام ضابط مخابرات إسرائيلي نزع من قلبه الرحمة، يجلس خلف شاشة الحاسوب، يصرخ في وجهه: "احكي يلا.. لازم تعترف"، فلم تُسعفه سوى كلمة "مش متذكر".
ضابط التحقيق الإسرائيلي ينظر إلى الشاشة مرَّة أخرى، ثم يلتفت إليه، ويتكلم بغلظة شديدة: "أنت أول واحد كنت.. اعترف!"، الطفل أحمد مناصرة يضرب بكفَّيْه اليُمنى واليسرى على رأسه، يطلب المساعدة من ذهنه، كـ"غريق في بحر يناجي لإنقاذه"، والدموع تنساب على وجنتيه، ولكن هي ذاتها الإجابة: "مش عارف والله.. مش متذكر".
كلّ ثانية تمر يزداد معها تعنيف الضابط عاليًا للطفل ومكرّرًا: "أنت كذّاب.. كذّاب.. ليش ضربته؟"، وكانت عائلته تتابع وقدّ خرّت قواهم جميعاً، قلقاً وحزناً على طفلهم "أحمد"، كما يحكي والده "صالح مناصرة".
ومعها يزداد بكاء الطفل وصوته المخنوق، حتى خرّت قواه أخيرًا متوسلًا في لحظة فصلت بين حياة ولا حياة: "قلت لك مظبوط.. كل اللي بتحكوه مظبوط.. مش متذكر.. من شان الله"، وشتائم متلاحقة من المجرم بحق الطفل.. ثمّ يتوقف الفيديو.
هي ثلاث دقائق من "فيديو مُسرب" كأنها سنوات، من حفلة تعذيب طويلة مارسها ضباط إسرائيليون بحق الطفل أحمد ذي الخمسة عشر عامًا، الذي اعتُقل مصابًا في عام 2015؛ لإجباره على الاعتراف بتنفيذ عملية طعن.
دبَّ القلق في أرجاء البيت، فلا مُتسع سوى للتفكير والخوف على "أحمد"، الذي اعتقله جيش الاحتلال قبل شهر من "فيديو التحقيق"، في مشهد مُرعب يضرب بكل معاني الإنسانية عرض الحائط، وكأنك تُشاهد "فيلم هوليود".
في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2015، فتح أكتوبر صفحة ذلك اليوم هادئًا، وما إن وصلت عقارب الساعة في دورانها إلى الحادية عشرة ظهرًا حتى خرج أحمد برفقة ابن عمه حسن، كعادتهما اليومية، وعلامات الفرح تتزاحم على وجهيهما، وعندما اقتربا من مستوطنة "بسغات زئيف" الواقعة في نطاق بيتهما بمنطقة بيت حنينا في مدينة القدس، حاصرتهما رصاصات إسرائيلية أطلقتها فوهة سلاح الجيش الإسرائيلي صوبهما.
لا مكان هنا للهروب، فالجيش الإسرائيلي حاصر الطفلين "أحمد وحسن" برصاصاته الغادرة، كوحش مفترس يحاصر فريسته، التي اخترقت جسديهما، فحسن (15 عامًا) استقرت في بطنه وأزهقت روحه فورًا، في وقت رفض قلب "أحمد" أن يتوقف عن العمل.
كأن تلك الرصاصات التي استقرت في جسد "أحمد" اخترقت قلب والده "صالح" وعائلته قبل أن تصل إليه، حينها توقف نبض الحياة لديه، فلا يرى إلا اللون الأسود، الدماء سالت من رأسه حتى قدميه، لكن هذا لم يكن كافيًا لجيش ومستوطنين داسوا قوانين الإنسانية تحت أقدامهم، فقد داس مستوطن على جسده الصغير، وضربه آخر بعصا غليظة على رأسه، غيّبته عما يجري حوله، يروي وقلبه يعتصر ألماً على فلذة كبده.
أركان العنصرية اكتملت حينما تُرك ينزف على الأرض، والمستوطنون يصولون ويجولون حوله، في حين يوثق آخرون الحدث عبر هواتفهم النقالة، وكأنهم يشاهدون "فيلمًا مسرحيًّا"، حتى جاءت سيارة الإسعاف الإسرائيلية على استحياء، وأخرجت سريرًا من بابها الخلفي، ونقلت أحمد إلى أحد المستشفيات في القدس.
وصل إلى المستشفى مُمددًا على ظهره، الحياة شبه متوقفة لديه، فلا يعي ماذا خلّفت له طلقات الاحتلال، مكث 24 ساعة "دون تحريك جسده" مرّت كالسلحفاة على جميع أفراد العائلة، حتى ظنّ الجميع أنه فارق الحياة، لكنه أفاق بعد ذلك، وكان تشخيص حالته "كسرًا في الجمجمة"، عقّدت حالته الصحية.
30 يومًا مضت أثقل من جبال الأوهام؛ لأن عنوانها الرئيس كان "الإهمال الطبي" من أطباء خلعوا ثياب "ملائكة الرحمة"، وارتدوا بزّة سجان ظالم، واكتفوا بدواء "الأكامول" فقط، وبعض المُسكنات التي لا تلائم حالته الصحية الخطرة.
"لماذا كل هذه العنصرية؟ أين حقوق الأطفال؟" تساؤلات كثيرة تلاطمت في ذهن "صالح" كأمواج البحر، بعدما أبقت سلطات الاحتلال ابنه في مؤسسة خاصة بالأسرى الأطفال لمدة عام، إلى حين تخطيه الرابعة عشرة من عُمره، من أجل تقديمه للمحاكمة.
السابع من نوفمبر 2016 يسرد حكاية أخرى من العذاب مع صاحب الجسد النحيل، هذه المرّة أمام قضاة في المحاكم الإسرائيلية مزقوا دستور العدالة في سبيل تحقيق أجندات سياسية.
الحارس من الخارج يدفع باب قاعة المحكمة، أربعة أفراد من الشرطة الإسرائيلية (اثنان في الأمام واثنان في الخلف) يُحيطون بأحمد من كل الاتجاهات، رغم أن يديه مكبلتان بـ"سلاسل حديدية" تتخذ شكلًا دائريًّا، ومُحكمة الإغلاق، تدبُّ أقدامهم الغليظة وهم يسيرون بخطوات ثقيلة نحو "قفص الاتهام" المُخصص لأحمد الذي أنهكه التعب والإرهاق.
القاضي الإسرائيلي ضرب بالمطرقة الخشبية على الطاولة ليعم الصمت قاعة المحكمة، إيذانًا ببدء محاكمة "أحمد"، ثم نطق بكلمات غليظة موجهة اتهامات له: "أنت متهم بقتل إسرائيليَّيْن، وحيازة سكين في مستوطنة "بسغات زئيف" شمال القدس، برفقة ابن عمك حسن"، ثم يُكمل: "الحُكم عليك هو السجن 12 سنة".
أخذ "أحمد" نفسًا عميقًا، ثم أتبعه بتنهيدة طويلة، لأن التهمة "ظالمة"، وقد وقعت عليه كـ"سيف" فجّ جمجمة رأسه المكسورة أصلًا، فبدأت الأفكار تتبعثر في ذهنه فهو الآن ذاهب لحياة جحيم ليست لها نهاية، لأن إدارة السجون الإسرائيلية لا تُفرق بين طفل وشاب وشيخ كبير.
غادر "صالح" قاعة المحكمة وهو مكسور الخاطر، فالقلق والخوف لم يغب عن قلبه ووجدانه، وصورة أحمد بجسده النحيل تدور مع تلك العقارب التي لا تتوقف، تمامًا كما لا يتوقف هو عن التفكير فيه.
مشاعر الحزن اقتحمت جسد "أحمد" بالكامل، خوفًا من مستقبل القهر والظلم الذي ينتظره خلف أسوار سجون العذاب الإسرائيلية، في اللحظة ذاتها يُمسك عناصر الشرطة الإسرائيلية يديه المُكبَّلتين اللتين كانتا مثل "ساعة المنبه" تُلملم أفكاره وتدفعه للنهوض متوجهًا لسجن "الدامون" الذي خصصه الاحتلال للأطفال.
غادر أحمد قاعة المحكمة الإسرائيلية في القدس، برفقة الشرطة الإسرائيلية، وعندما وصل إلى "الدامون" دُفنت أحلام الطفولة على أعتابه، ثم دفعه السجان إلى الداخل وأحكم إغلاق أقفال الباب الخارجي.
ركن نفسه في زاوية ذلك السجن المظلم المُحاط بقضبان حديدية تمنع اختراق الهواء له، وتحجب خيوط أشعة الشمس الذهبية المليئة بالحياة، وقد تمكن من جسده الإرهاق والتعب، فلم يعد يقوى على تحمل تلك العذابات.
مرّت سبع سنوات، بهتت خلالها ملامح وجهه، وتغيَّرت معالمه، واختفت ابتسامته التي كان يطل بها دومًا، عيناه ذابلتان، يرقد على سرير خلف قضبان حديدية تُطبق على صدره، وأوجاع جسدية من رأسه حتى قدميه، وأخرى نفسية، يصف "صالح" حالة أحمد الصحية بعد تنهيدة قهر عميقة.
إنسانية تتهاوى إلى القاع، فالسجان يزيد أوجاع أحمد بعزله منذ أربعة أشهر في "زنزانة" سجن "إيشل"، التي تُشبه في حجمها "القبر" الذي يُطبق عليه من كل الاتجاهات لا تكفي لمد قدميه، تختطفه من دفء العائلة، وتحجب ضوء الشمس، فلا يراه إلا من فتحات سقف السجن الضيقة عندما يذهب إلى "الفورة" في الفسحة اليومية للخروج من هذا العذاب.
يقصّ "صالح": "لم أترك بابًا إلا وطرقته في سبيل السماح لطبيب يكشف عن طبيعة الحالة الصحية لأحمد، حتى وافق السجان على إدخال طبيبة نفسية إسرائيلية، فكان التشخيص أن "أحمد معه الفصام المعروف باسم "انفصام الشخصية" الحاد، ويحتاج إلى احتضان اجتماعي".
كظم الوالد، صرخة دوى صداها في أعماقه، تجرعها بمرارة على الرغم من أنن ودد فك أسرها وإطلاق العنان لحنجرته وعينه لتفجير تلك الشحنة من الألم المحبوسة في داخله، فهو لا يستوعب مدى الإجرام الإسرائيلي بحق ابنه، والعذاب الذي تعرض له منذ الاعتقال، فأين قوانين الطفولة وحقوق الأطفال؟
ظل القهر جاثمًا على قلبه حينما منعه السجان وزوجته، من زيارة أحمد "بلا مسوغ" مطلع شهر مارس/ آذار، واكتفى بالسماح لطفليّه الصغيرين بزيارته فقط، فهنا أحكم مسلسل القهر قبضته.
أحمد أصبح "بلا ذاكرة" يصارع مرض الفصام النفسي من داخل "زنزانة" إسرائيلية ضيّقة، ولايزال والده "صالح" غارق في قلقه، ليؤكد أنه حينما يعذب الاحتلال الإنسان فإنه يعذب ذويه معه، ويمزق رسالة الرحمة والإنسانية.
كان "الوالد" يستمع لتنهيدات الألم والحسرة وكومة مشاعر حزينة تملأ قلبه المهشم من الداخل، وكأن زلزالًا ضربه وهدم أعمدة التماسك فيه.
ومع مرور تلك الأيام والسنوات، لا تزال محاكم الاحتلال تدوس على دستور العدالة وتتجاهل معايير حماية الأطفال، لتذهب مرّة أخرى لتمديد عزله بشكل انفرادي لمدة 6 شهور جديدة في سجن "شكما" بعسقلان، وتتفاقم معها معاناة عائلته.
كل صباح وقبل أن تتسلَّم الشمس مناوبتها لا يزال صالح وعائلته ينتظرون لحظات فرح تطفئ نار القلق على حالة طفلهم أحمد المتردية، على أمل أن يستعيد عافيته، ويطل بابتسامته التي لا تفارق وجهه كسكون الملائكة وهدوء المسنين.
أحمد الذي دفن الاحتلال طفولته، رسم مثالًا لحكاية عذاب لطفل أسير من أصل 160 طفلًا يقبعون خلف زنازين السجون الإسرائيلية، وفق ما رصدت مؤسسات معنية بشؤون الأسرى.
بعض القصص لم تنتهِ بعد، فهناك جزء متبقٍّ خلف "قضبان الموت"، وما زالت حقوق الإنسان تُنتَهَك في فلسطين.