للفلسطينيين حصّةٌ وازنةٌ في الأسقف الجنوب إفريقي، الأيقونة العنيد، ديزموند توتو، الذي غيّبه الموت الأحد عن 90 عاما. وقد أصابت حركة حماس في بيان نعيها له بأن فلسطين خسرته كما بلادُه. وإذ اشتُهر بكفاحه المديد ضد التمييز العنصري، ومن أجل العدالة، وفي نصرته المظلومين، في جنوب إفريقيا والقارّة السمراء (ناهض سياسات موغابي في زيمبابوي مثلا)، فإن مناقبيّته فاضت إلى مطارح بلا عدد في العالم، ومن ذلك مساندته مسلمي الروهينغا في بورما، وانتقد المرأة التي عدّها يوما "شقيقة" له محبوبة، أونغ سان سوتشي، والتي حازت جائزة نوبل للسلام (مُنحت له في العام 1984)، الجائزة التي خاطب لجنتَها في رسالةٍ معلنةٍ في 2016، من أجل منحها للقائد الفلسطيني الأسير، مروان البرغوثي. وكتب فيها إن المحتَجزين الفلسطينيين ليسوا إرهابيين، وإنما هم "مقاتلو حرية"، وإن البرغوثي حارب من أجل الحرية والسلام. وجاء على اعتقال إسرائيل أكثر من 850 ألف فلسطيني منذ 1967، ما يجعلها "الكبرى من حيث الاعتقالات التعسّفية في التاريخ المعاصر".
كان ديزموند توتو يقول إنك إذا كنتَ محايدًا في حالات الظلم، فقد اخترتَ أن تكون مع الظالم. وصدورًا عن رؤيته العالية الأخلاقية هذه، لم يُؤثَر عنه الإفراط في الكلام عن التسامح والسلام، وغيرِهما من مفرداتٍ معتادةٍ من رجال الدين الذين غالبا ما يميلون إلى هذا الخطاب المتعالي، والذي يتعامى عن حقائق ومظلوميّاتٍ ماثلة. كان يلحّ على الحق والعدالة والمساواة. ولذلك لم يكن، وقد سمّاه صديقه نيلسون مانديلا "رئيس أساقفة الشعب"، يُغالي لمّا شابه، في العام 2002، سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين بسياسة التمييز العنصري التي كانت سائدةً ضد السود في بلاده، وقال إن العنف الإسرائيلي لا يولّد إلا مزيدا من الكراهية والعنف المتبادل. وتساءل: كيف لأناسٍ عانوا الأمرّين من النازية، بوصفهم يهودا، أن يعرّضوا الشعب الفلسطيني لهذا الكمّ من المعاناة. وفي 2014، جاء مهما من أول أسود يتولّى رئاسة مجلس الكنائس في جنوب إفريقيا أن يخاطب الإسرائيليين في مقالٍ نشره في "هآرتس": "حرّروا أنفسكم بتحريركم فلسطين". وكتب أيضا أنه لمّا كان يشارك، قبل ربع قرن، في مظاهراتٍ في بلاده تناصر الفلسطينيين، كان يطلُب من المتظاهرين أن يهتفوا بأنهم ضد العنصرية والظلم والاحتلال الإسرائيلي، وليسوا ضد اليهود.
رجلٌ بهذه الأناقة الأخلاقية الرفيعة، بهذا السمو الروحي، وبالكفاحية الطويلة التي زاولها في بلده من أجل الإنصاف والمساواة، وهو الذي ترأس، بتكليفٍ من الرئيس مانديلا، في 1995، لجنة الحقيقة والمصالحة من أجل جبر الأضرار من الظلم ومحاسبة مرتكبيه، لم يكن مستغربا من نظام الفصل العنصري الإسرائيلي أن يرفض قدومه إلى فلسطين، لمّا تولّى رئاسة فريقٍ يتبع مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان كلّف بإعداد تقرير بشأن قصف إسرائيل بيت حانون في 2006 (استشهد فيه 19 فلسطينيا)، فمنعته ثلاث مرّات من زيارة غزة، قبل أن يُمكنه هذا عن طريق مصر في 2008، ثم كتب في تقريره إن القصف ربما يكون "جريمة حرب"، وأوصى بأن تدفع إسرائيل للضحايا تعويضاتٍ كافية "من دون تأخير". رجلٌ محترمٌ من هذه القماشة لم توفّر دولة الاحتلال مناسبةً إلا واستهدفته بالتشهير والإساءة، وهو الذي استبق دخول الرئيس بايدن البيت الأبيض، قبل نحو عام، بإرسال رسالةٍ مفتوحةٍ إليه، نشرها في "الغارديان"، يطلب منه فيها إنهاء "مهزلة" منح مبالغ ضخمة لمساعدة دولةٍ ذات سياساتٍ قمعيةٍ تجاه الفلسطينيين، وكذلك التوقّف عن التستر على سلاح إسرائيل النووي. ورأى أن من المحتمل أن يكون أحد أسباب بقاء الفصل العنصري الإسرائيلي وقتا أطول من الذي انتهى في جنوب إفريقيا أن إسرائيل أمكن لها الحفاظ على نظامها القمعي، ليس فقط بأسلحة الجنود، وإنما أيضا بإبقاء سلاحها النووي.
لا تزيّد في الدعوة هنا إلى أن يتسلّح الفلسطينيون، في مخاطباتهم العالم، بشأن محنة الاحتلال ونكبة التهجير والتمييز والقتل، بالمضمون العام لخطاب العدالة الذي طالما رفع لواءه رجل الدين المسيحي اللامع، ديزموند توتو، سيّما أن مقولة الأبارتهايد ليست فقط تتوفّر على مطابقةٍ ظاهرة في توصيف العُسف الإسرائيلي الراهن والطويل، وإنما أيضا لما ينجزُه خطابٌ ينهض عليها من أثرٍ وتأثيرٍ في دوائر عريضة في العالم، حقوقيةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ تحرّرية.. سلام لروح توتو.