محمولًا على الأكتاف، يشيعه الأهالي ويهتفون "بالروح بالدم نفديك يا شهيد".. ابتسامته بائنة مثل قمر اكتملت استدارته في ليلة البدر، يلتفُ جبينه بعصبة "كتائب القسام"، ورأسه يرتخي على كوفية حمراء، مكفنًا بالأوشحة الخضراء وقد تركت "الرصاصات الغادرة" ندوبًا على وجهه، بعدما اخترقت قلبه، وتتحرك الجماهير بنعشه مع صوت الأنشودة المرافق للتشييع: "قمري الشهيد.. عمري الوحيد.. حضن الردى بعد الصمود.. ومضى إلى دار الخلود".
المهندس حسين الأحمد الحافظ لكتاب الله، كان برفقة الشهيدين عمر السهلي ومحمد طه، وهم يتقدمون حشودًا غفيرةً يُشيِّعون جثمان الشهيد حمزة شاهين بمخيم "البرج الشمالي" جنوب لبنان، ليصبحوا جميعهم مُشيَّعين، بعدما انهالت عليهم رصاصات الغدر من عناصر أمن حركة فتح.
في أزقة مخيم "المية ومية" عاش حسين حياةَ اللجوء والشتات، لكن عينيه وبوصلته كانت نحو فلسطين المحتلة، يواكب كل الأحداث ويتابع عن كثب التطورات الجارية، يفرح كلما نفذ ثائر عمليةً بطوليةً بالضفة الغربية المحتلة، وتتقد نيران الثورة بداخله وتشتعل مع كل جريمة إسرائيلية جديدة، ليظل مرتبطًا بقضيته.
على موائد القرآن الكريم وحلقات التحفيظ التي كان يديرها في المسجد، رسم الأحمد طريق عودته إلى فلسطين المحتلة، لكنه اليوم يسلم مفاتيح الطريق الذي سلكه إلى أجيال عديدة انخرطت وتربت على يديه، وهو لم يزد عمره على اثنين وعشرين عامًا.
شقيقه الأكبر عادل، يحدث صحيفة "فلسطين" عن تفاصيل آخر لحظاتٍ جمعته بشقيقه حسين، يستذكره حينما شارك قبل استشهاده بيوم في إخماد المسجد المحترق في مخيم البرج الشمالي في لبنان "رأيته وقد جاء ليلا وجلس قليلا يراجع ورده اليومي من القرآن، وفي الصباح جلسنا معًا وتناولنا طعام الإفطار ثم طلب مني إيقاظه التاسعة إلا ربع".
يضيف شقيقه عن آخر لحظاته، أنه كان رفقة صديقه عمر في المسجد قبل انطلاق جنازة التشييع "بينما كنت جالسًا مع بعض الأصدقاء نتابع مستجدات تشييع جنازة الشهيد حمزة، حتى سمعنا أصوات الرصاص وارتكاب المجزرة التي استشهد فيها شقيقي حسين، وكانت فاجعة لم نتوقعها، فلم نتخيل أن يتم ارتكاب جريمة بحقه بهذا الشكل".
"أكرمه الله بقلب واسع يحب الخير فكان دائمًا يقوم بحملات خيرية ومساعدات حتى أننا اكتشفنا بعد استشهاده أن لديه كفالة لأيتام، كان يستنفر إذا ما انتهكت حرمات الله أو شاهد شيئًا خاطئًا في أي مكان يتواجد فيه"، هكذا يردف شقيقه.
وكان حسين يجمع الأطفال الذين يرتادون حلقات التحفيظ، ويعلمهم علوم القرآن والفقه، ويغرس في قلوبهم حب الجهاد والمقاومة، ودائمًا ما يطلب الذهاب إلى غزة والعيش بين ترابها، ويستذكر قريته المهجرة "الجيش"، ويعد العدة للعودة والتحرير جنديا في صفوف المقاومة، كما يقول شقيقه.
ويظهر حسين في مقطع مصور وهو يتوسط حلقة للأطفال يرددون بصوتٍ واحد رافعًا أصبع السبابة، يسألهم: الجهاد؟: فيرد الأطفال بصوت واحد يملأ أركان المسجد "سبيلنا"، ثم يكرر النداء على شكل سؤال: الموت في سبيل الله؟، فيأتيه الجواب سريعًا "أسمى أمانينا"، ثم يختمون العهد بصوت واحد "في سبيل الله قمنا، نبتغي رفع اللواء، فليعد للدين مجده وليعد للأقصى طهره، ولترق منا الدماء".
وارتقى حسين مساء 12 ديسمبر/ كانون الأول الجاري برفقة عمر السهلي (20 عاما) ومحمد طه (30 عامًا) وأصيب 10 آخرون، في مجزرة ارتكبها عناصر من أمن حركة فتح في لبنان بحق المشاركين في تشييع جثمان الشهيد حمزة شاهين ابن حركة المقاومة الإسلامية حماس بمخيم "البرج الشمالي".