دموع الحاجة سارة الرجوب على فلذة كبدها نبيل كانت تنطق وجعا مرددة "أنا أمك.. آه أنا أمك يا حبيبي"، أما هو فعينيه كانت تائهة، شد على كلتي يديها يتحسس وجهها، ووضع رأسه على كتفها، ربما صوتها أعاد إليه بعض الذكريات التي حاول الاحتلال طمسها في عقله.
قبلها ظهر المحرر نبيل ملقي على الأرض لا يقوى على الوقوف. هذه اللحظة وثقتها كاميرا الناس المتجمهرة والتي حاولت سلطات الاحتلال منعها من الاقتراب منه بعدما أنزلوه من سيارة الإسعاف ورموه على الأرض.
في خلفية المشهد كان الصراخ لا يتوقف من ابنه عُبادة ذي (9 أعوام) "هاد أبوي هاد أبوي"، وأخيه يصرخ على الجنود "هاد أخوي" وهم يسلطون بنادقهم نحوهما ويطلبون منهما الابتعاد، حتى سلمهم الأخ بطاقة الهوية، ليقوم أخيه بحمله في سيارة إسعاف والتوجه به إلى المستشفى.
المحرر نبيل الرجوب من قرية الكوم جنوب الخليل يعمل مدرسًا للتربية الإسلامية واعتقل إداريا لمدة ثمانية أشهر، قضى جلها في العزل الانفرادي، قضاها مكبلا بالسلاسل، ومارس الجنود عليه كافة أشكال التعذيب الجسدي والنفسي، حتى خرج مصابا بصدمات نفسية جعلته لا يتعرف على والدته وإخوته، وحتى زوجته وأطفاله الأربعة.
حُمل المحرر الرجوب إلى المستشفى، ومنعت والدته من زيارته لأنه لم يكن يقوى على الكلام، ويعاني من كدمات شديدة في عينيه منعته من فتح عينيه، وهي لم تكل من الإلحاح على الأطباء بتحسس نبضه لتتأكد أنه على قيد الحياة.
ثلاثة أيام والحاجة سارة تجلس عند قدميه على سرير المستشفى، تنظر منه أن ينظر إليها أو أن يحدثها، ولكن لم يفعل ما تمنت، وبعدها سمح الأطباء بنقله إلى البيت حتى ترد إليه ذاكرته شيئا فشيئا بعد عودته إلى حياته الطبيعية.
وعلى مدار أربعة أيام أخرى لم تبرح الأم مكانها، ولم تترك ابنها ولم تمل من ترديد "يما يا حبيبي أنا أمك رد عليا" حتى تمكن من فتح عينيه، وإذ بها تُفاجأ من ردة فعله حينما حاول الهرب منها واضعا يديه على وجهه، وحاولت التهدئة من روعه بقولها "أنا أمك مش يهودي".
تسرد الحاجة سارة لـ"فلسطين" حكايتها مع ابنها الذي اعتقل معافا وخرج بصدمات نفسية: "بعد أسبوع تفاجأت به يقرب مني ويحضنني ويقبل يدي، ويلحق بي أينما ذهبت، وهذا التحسن طرأ عليه بعد خضوعه لعلاج نفسي على يد طبيب نفسي".
وتكمل الرجوب: "نبيل يحفظ القرآن الكريم كاملا، لم يكن يعاني من أي مشاكل صحية ولا عقلية قبل اعتقاله، ولم نكن نعلم شيئا عن حالته لأننا ممنوعون من زيارته، والتحدث معه".
وتضيف: "يديه بهما جروح غائرة من السلاسل الحديدية التي كان مقيدا بها لساعات طويلة، وآثار التعذيب على جسده حيث كان الجنود يطفئون أعقاب سجائرهم على جسده، ويتركون الكلاب البوليسية تنهش جسده".
ومن الأسباب التي كان يعذب لأجلها، أنه ذكر دلائل لزوال (إسرائيل) في رسالة الماجستير التي حصل عليها قبل أربع سنوات، وسبب تسميته لابنه البكر عُبادة، وكلما سأله الجنود عن كنيته يجيب أبو عبادة، ينهالون عليه بالضرب أكثر.
وتتابع والدته: "كانوا يدمرون نفسيته بالكذب عليه بأن أولاده الذكور الثلاثة قد ماتوا في حادث سير، أما ابنته الوحيدة آلاء فاختلقوا كذبة بأنها أصيبت بالغرغرينا وبترت قدماها".
كان الجنود يقتحمون الزنزانة ويصبون على عينيه ضوءً قويًا باللونين الأحمر والأصفر، ثم يضعون صورا أمامه على الجدار ويدّعون بأنها لأطفاله الذين ماتوا.
وتصف والدته حالته حينما رأى أطفاله، بأنه لم يستوعب أن ابنته آلاء لم يصبها مكروه، ويسألها عن بتر قدميها، فيقوم إخوتها بحملها له ليتحسس قدميها لكي يهدأ.
ويخشى نبيل من "ريموت" التلفاز ويرفض أن يحمله أطفاله، لأنه يتخيله بندقية تصوب عليه، لأن جنود الاحتلال بعد أن كانوا يسددون اللكمات على عينيه وجسده يصوّبون نحوه البندقية ويهددونه بالقتل.
ويروي نبيل لوالدته كيف كان الجنود يرفضون إدخال الطعام والماء له كلما طلب، مُدّعين أنه في شهر رمضان، ويتركونه لعشرة أيام دون ماء وأكل.
القانون الدولي
من جهته يقول مدير مركز أحرار لحقوق الانسان والكاتب المختص بشؤون الأسرى الناشط الحقوقي فؤاد الخفش: "قدرة الأشخاص للاستجابة لما يتعرضون له من ضغوط وتعذيب نفسي تختلف من شخص إلى آخر، فليس كل أسير يتم الإفراج عنه يكون مصابا بأمراض أو اضطرابات نفسية".
ويضيف الخفش لـ"فلسطين": "يهدف الاحتلال إلى تدمير روح المقاومة داخل أجساد الفلسطينيين، من خلال الاعتقال والتعذيب النفسي والجسدي، لخلق إنسان مريض نفسيًّا".
وعن أساليب التعذيب النفسي التي يمارسها الاحتلال منذ لحظة اعتقال الأسرى حتى الإفراج عنهم، يذكر أن العزل الانفرادي، ومنع الأسرى من الزيارة، والتواصل مع عائلته، وإدخالهم إلى غرف العصافير وتعريضهم للتضليل، والتهديد بالقتل، حرمانهم من النوم. والشبح على كرسي لفترات طويلة خلال جلسة التحقيق حيث تقيد اليدين بالكرسي إلى الخلف فيما تثبت الأرجل على الأرض. بالإضافة إلى التعذيب الجسدي الشديد ووضعيات الشبح المختلفة.
وتُعد عمليات اعتقال المواطنين الفلسطينيين بشكل تعسفي، انتهاكاً للضمانات القانونية المتصلة بحظر الاحتجاز التعسفي، والتي كفلها القانون الدولي لحقوق الإنسان، من خلال المادة (9) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948م، والمادتين (9) و(10/1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1976م، وكذلك المادة (78) من اتفاقية جنيف الرابعة.
ويعد الاعتقال الإداري بالصورة التي تمارسها دولة الاحتلال غير قانوني واعتقال تعسفي، فبحسب ما جاء في القانون الدولي "إن الحبس الإداري لا يتم إلا إذا كان هناك خطر حقيقي يهدد الأمن القومي للدولة"، وهو بذلك لا يمكن أن يكون غير محدود ولفترة زمنية طويلة.