لم تمضِ سوى بضعة أيام على تنفيذ عملية نابلس البطولية، قرب مستوطنة حومش المخلاة، على الطريق بين نابلس وجنين، حتى أعلن الاحتلال اعتقال المنفذين، وهم من بلدة سيلة الحارثية قضاء جنين، ومصادرة سلاحهم والمركبة التي استخدمت لتنفيذ العملية.
هذا المآل يكاد يكون نسخة مطابقة لمآل مجمل الأعمال المقاومة التي جرت في الضفة الغربية منذ عام 2007، أي الوصول السريع للمنفذين، مهما اجتهدوا في احتياطاتهم الأمنية واللوجستية، حتى بات معلوماً أن الخلية الواحدة، سواء أكانت فردية أم منظمة، لا تتمكن من تنفيذ أكثر من عملية واحدة -في الغالب-، قبل اعتقال أو استشهاد أفرادها، وحتى أولئك الذين يختفون عن الأنظار بعد تنفيذ عملياتهم، لا تستغرق مدة مطاردتهم طويلا.
هذا الحال يبدو طبيعياً ومتوقعاً في ساحة مثل الضفة الغربية، فلا مجال فيها للمراكمة والبناء على التجارب، أو استحداث المستحيلات لتأمين الخلايا، ومردّ هذا ليس الضعف في كفاءة النخبة المضحية فيها، ولا غفلتهم عما يجب اتخاذه من احتياطات عالية، بل لأن الضفة الغربية ساحة مكشوفة للاحتلال بالكامل، من خلال تقنيات المراقبة الدقيقة عبر الكاميرات المزروعة في جميع الشوارع، أو المتابعة الإلكترونية العالية لمجال الاتصالات فيها، أو من خلال الأمان الذي يحظى به عملاء الاحتلال، كونهم غير مراقبين من السلطة، وملاحقتهم ليست على أجندتها ولا اهتماماتها، وفوق كل هذا عبر الاستفادة من جهود السلطة في ملاحقة العمل المقاوم ورصد عناصره الفاعلة أو المتوقعة، وإجهاض مئات الخلايا وهي في طور التكوين والإعداد خلال السنوات الماضية.
ورغم كل هذا، فإن فرادة هذه العمليات واستثنائيتها تكمن في مجرد حدوثها، وإنْ على فترات غير متقاربة، فأن تظل هناك إمكانية لتجددها رغم النزيف البشري الهائل لعناصر المقاومة، الذين يتم تحييدهم اغتيالاً أو اعتقالا، هو مؤشر بالغ الإيجابية، ويعني أن الضفة الغربية ما تزال حبلى بالمفاجآت التي تسوء وجه العدو الصهيوني ومعاونيه، وأنّ هنالك من رجالها من يظل منحازاً إلى مسار واجبه في المقاومة، ومقتضيات هذا الواجب، حتى وإن كان الثمن المبذول بين يدي هذه التضحيات كبيرا، يستغرق الدماء والأعمار، وبيوت المقاومين التي ستهدم، وشمل عائلاتهم الذي سيشتت.
ثمة عوامل ذاتية وموضوعية صنعت هذا الاستعداد العالي للتضحية الذي ما زال حاضراً لدى نفر من رجال الضفة الأباة، فإنْ كان العامل الذاتي هو الأساس، أي استشعار المسؤولية وإدراك معنى الواجب، وتوفّر الإرادة المعينة على أدائه، فإنّ هناك ما ظلّ يغذي نفَس المقاومة لدى هؤلاء الرجال، ويمدّ معنوياتهم بالزاد واليقين، ويصقل استعدادهم، وصولاً إلى لحظة القرار بالنفير، والمقصود ما صنعته حالة المقاومة في غزة من رافعة معنوية، تركت أثرها العميق في نفوس الناس ووعيهم، وجددت ثقتهم بجدوى انتهاجها سبيلاً للخلاص من الاحتلال، في ظل تزايد جرائمه وانتهاكاته واستيطانه وتمدده في كل مفاصل المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية.
محلّياً أيضا، فإن كل عملية مقاومة ناجحة ترفع معنويات عموم الناس، وتزيد من ثقتهم بإمكانية تحدي القيود والعقبات في ساحة الضفة، وتشجّع على محاكاة الفعل بفعل آخر، وهذه قضية تقلق مخابرات الاحتلال كثيرا، لذلك نجده يستنفر آلاف العناصر من جيشه بعد كل عملية، ويترك للمستوطنين أن يعيثوا في محيط العملية خراباً وترهيباً واعتداءً على الناس وممتلكاتهم، لكي يُبقي الناس أسرى فكرة (الثمن العالي) للفعل المقاوم، وفي المقابل نجد تركيزاً عالياً في إعلام الاحتلال على استعراض جهود جهاز الشاباك في سرعة الوصول للمنفذين أو في إجهاض خلايا عديدة وهي في طور النشوء.
ينفق الاحتلال مالاً ووقتاً وجهداً بلا حساب على ضرب معنويات الناس وقناعتهم بجدوى مقاومته، فيما تتكفّل عملية ناجحة واحدة بإنعاش ذاكرة الناس ومعنوياتهم وقناعاتهم، وتصحيح وجهة مسارهم، وتمتين رهانهم على خيار المقاومة، سبيلاً وحيداً لمواجهة هذا المحتل.