تُرى، هل هناك ما هو أبعد من ضبط السلوك "المشاغب" لقطر في أهداف الدول الأربع التي بادرت بقطع العلاقات مع قطر؟! وهل من المحتمل أن تجد هذه الدول -وخصوصًا السعودية- نفسها أمام استحقاقات وأثمان أكبر وأخطر مما ستدفعه قطر؟!
وهل ثمة إغراء أمريكي غير مباشر لهذه الدول بالدخول في مغامرة كهذه، تقف خلفه أجندات أمريكية وصهيونية، ينقل الحريق إلى دول الخليج، في الوقت الذي كانت تظن فيه أنها إنما ترتب الأوضاع لصالح استقرارها السياسي والأمني، بعيدًا عن اضطرابات المنطقة؟!
يحاول هذا المقال أن يستقرئ السياق الإقليمي/الدولي (وخصوصًا الأمريكي) للأزمة "المفاجئة" مع قطر. ويظهر سياق الأحداث أننا أمام ثلاثة مسارات مختلفة:
المسار الأول: إغلاق ملفات "الربيع العربي"
وهو يتسق مع فكرة أن الملفات الساخنة في المنطقة التي شملتها الثورات وحركات التغيير والاضطراب قد وصلت إلى مداها، وأن "الطبخة قد نضجت" بما فيه الكفاية للقيام بإغلاقها، كما في العراق وسوريا واليمن وليبيا، مع تثبيت المكتسبات التي حققتها "الموجة المضادة" لثورات التغيير خصوصًا في مصر.
ولأن الملف الفلسطيني "المزمن" يملك دائمًا قدرة "سحرية" هائلة على تفجير الأوضاع، وتحريض الجماهير وتعبئتها ضد المشروع الصهيوني، وحتى ضد الأنظمة العربية نفسها بسبب عجزها وتقصيرها؛ فإنه لا يمكن إغلاق هذه الملفات دون أن يتم التعامل مع الملف الفلسطيني سواء بإغلاقه أو بوضعه تحت التحكم والسيطرة.
لذا، فلا بدّ من محاولة تطويع حركة حماس وإضعافها وتهميشها في الداخل والخارج؛ وسيكون ذلك أفضل إن أمكن القضاء على حكمها وسيطرتها على قطاع غزة.
لذلك، فإن السياق المنطقي لهذا المسار يفسر السلوك الذي قامت به الدول المُقاطِعة بأنه يندرج في محاولة تطويع قطر، بما يتوافق مع سياسات هذه الدول في محاربة "الربيع العربي" وإغلاق ملفاته، ومحاربة تيارات الإسلام السياسي المعتدل التي برزت في قيادة هذا "الربيع".
وكذلك سياساتها في الضغط لإسكات صوت شبكة الجزيرة لما تملكه من رصيد شعبي هائل في العالم العربي، وفي الضغط على حماس التي تمثل خط المقاومة والخط الإسلامي الفلسطيني المعتدل، من أجل فتح الطريق لمحمود عباس وسلطة رام الله ومسار التسوية، أو حتى من أجل التهيئة لقدوم محمد دحلان المدعوم من الإمارات ومصر.
هذا السيناريو يتسق مع السلوك السعودي الإماراتي الرسمي تجاه موجة "الربيع العربي" خصوصًا في عهد الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز؛ وهو سلوك تراجع سعوديًا مع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز السلطة، لكن يبدو أن التيار أو الجناح المؤيد لهذه السياسة -في منظومة الحكم السعودية- عاد مؤخرًا لاستعادة حيويته وقوته.
ويبدو أن لهذا التيار قناعة بأن استقرار دول الخليج مرتبط بمحاربة تيارات "الإسلام السياسي"، وبمزيد من إجراءات التحكم والسيطرة على الشعوب، وبمزيد من التحالف مع الأمريكان والدفع بمسيرة التسوية السلمية مع (إسرائيل)، مع توجيه بوصلة العداء تجاه إيران.
المسار الثاني: بؤرة توتر جديدة
وهو مسار يقول إن الذين أطلقوا الأزمة وقطعوا العلاقات انطلقوا من حسابات خاطئة، وإنهم غير قادرين على التحكم في مسارات الأزمة ومخرجاتها، وإن الطرف الأمريكي أعطاهم موافقته الضمنية ليورطهم في مستنقع يصعب الخروج منه لسنوات عديدة.
وبالتالي فهو مسار يتوقع أن تكون الأزمة مع قطر مشروعًا لبؤرة توتر جديدة في العمق الخليجي. وسيتحول إلى مسار خطير لاستنزاف طاقاتها وإمكاناتها وثرواتها، بحيث تصبُّ في الجيوب الأمريكية الغربية، ويزيد فرص (إسرائيل) في تقوية وضعها بالمنطقة، وتطبيع علاقاتها مع عدد من دول الخليج.
إذن، هذا المسار ليس معنيًا بإغلاق الملفات، وإنما بفتح ملف جديد يزيد ضعف المنطقة العربية والإسلامية وتشتتها وتشرذمها.
بالتأكيد، أن دول الخليج -التي قطعت العلاقات مع قطر- لا تريد بل وترفض مسارا كهذا؛ لأنه يُدخلها في أزمات ومخاطر هي في غنى عنها. ولأنها إنما قطعت العلاقات لتحقق مزيدًا من الأمن والاستقرار برأيها.
ولكن مَن قال إن الذي يُطلق شرارة أزمة من هذا النوع قادر على التحكم في مساراتها الكلية، ويستطيع التصرف بمنأى عن التدخل الخارجي وخصوصًا الأمريكي؟!
تعزز هذا المسار عدة أمور:
1- أن كل أزمات المنطقة التي فُتحت لم تغلق حتى الآن، حتى تلك التي مضى عليها زمن طويل، كالوضع الناشئ عن احتلال العراق منذ سنة 2003. وأن العلاجات المقدمة للأزمات هي علاجات غير جذرية، وتحمل عناصر الانفجار في ذاتها، وأنها تكرس الاصطفافات الطائفية والعرقية والجهوية، وتُمأسِسُ الفساد السياسي والإداري والمالي، وتُضعف مؤسسات الدولة المركزية.
2- أن أولئك الذين نادوا بتقسيم المنطقة وفق خرائط جديدة على أسس طائفية وعرقية، لم يستثنوا دول الخليج من خرائطهم. وأن ما يجري على الأرض منذ سنوات في العراق وسوريا واليمن وليبيا (وقبل ذلك في السودان) يدعو للنظر بجدية إلى خطورة مخططاتهم. وأن ثمة سياسات أمريكية غير معلنة تصبُّ في هذا الاتجاه، بغض النظر عن التصريحات السياسية الرسمية.
ونستذكر في هذا المجال مخططات المستشرق الشهير برنارد لويس، وما كتبه رالف بيترز في مجلة الجيش الأمريكي سنة 2006 حول حدود الدم، وما كتبه ألوف بن رئيس تحرير جريدة هآرتس الإسرائيلية في بدايات الثورات العربية سنة 2011. ومعظمها كتابات لا تكتفي بإشارات حول تقسيم للبلاد التي تقع فيها أزمات حاليًا، وإنما تنتقل إلى الجزيرة العربية وخصوصًا السعودية.
3- أن الموقف الأمريكي تعامل بطريقة مراوغة، وترك الباب "مواربًا" أو مفتوحًا جزئيًا، فبدا سلوك الدول المقاطِعة وكأنه حصل على ضوء أخضر أمريكي ضمني.
إذ تمّ التصعيد ضد قطر (24 مايو/أيار 2017) بعد ثلاثة أيام من بدء زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسعودية…، وظهرت تصريحات أو تغريدات للرئيس الأمريكي يُفهم منها دعم الضغط على قطر، بينما حاولت الخارجية الأمريكية وباقي المطبخ السياسي تقديم سياسة رسمية، تؤكد الحرص على علاج الأزمة وعدم تفاقمها.
وفي اليوم التالي للتصعيد ضد قطر (25 مايو/أيار 2017) رُفع للكونغرس الأمريكي مشروع قانون بمعاقبة الدول والمؤسسات التي تدعم حماس، وذكرت فيه قطر بالاسم دون غيرها في العالم العربي كله (ذُكرت إيران كتحصيل حاصل).
هذا السلوك يُذكرنا بالفهم الضمني الذي فهمه صدام حسين بعد تصريح السفيرة الأمريكية لديه، مما شجعه على احتلال الكويت سنة 1990. وهو سلوك يحمل في طياته الرغبة في الاستجابة لرغبات قوى محلية في مسارات معينة بقصد توريطها، واستثمار ذلك لاحقًا بما يخدم الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
4- أن الطرف الأمريكي/الإسرائيلي سيكون المستفيد الأكبر من وجود حالة خليجية "قلقة" مزمنة (دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى صدام عسكري كبير)، ولكن بما يكفي لاستعانة الأطراف الخليجية الدائمة بالأمريكان، وبما يسمح لهم بتكريس هيمنتهم وتدخلهم في الشأن الداخلي الخليجي.
وبما يؤدي إلى استنزاف دول الخليج أطول فترة ممكنة في صفقات الأسلحة، ويدفع دول الخليج لتطبيع علاقاتهم مع (إسرائيل) كمدخل رئيسي لضمان الدعم الأمريكي في لعبة التنافس الداخلي. وهي "لعبة" تضاف إلى لعبة الصراع الإقليمي مع إيران، الذي تحرص أمريكا على تأجيجه واستمراره بما يصب في الأهداف نفسها.
ويدخل في هذا السياق أن الولايات المتحدة ستكون أقدر على ضمان الصفقات التي جرى التوافق عليها مبدئيًا مع السعودية للسنوات العشر القادمة بقيمة 460 مليار دولار، وعلى مزيد من الاستخدام الفعال لقانون "جاستا" الأمريكي الذي يستهدف بدرجة أساسية الابتزاز المالي للسعودية.
5- إن ثمة مؤشرات إماراتية بأن الأزمة قد تطول سنوات كما صرح بذلك وزير الدولة للشؤون الخارجية أنور قرقاش؛ بل إنه في التصريح نفسه (انظر جريدة الحياة، 20 يونيو/حزيران 2017) قال إن أبو ظبي تقترح "مراقبة أنشطة الدوحة في المنطقة إذا تراجعت عن مواقفها، وأن القوى الغربية قد تضطلع بهذه المهمة كي لا تملأ تركيا وإيران الفراغ".
وهو تصريح يحمل مضمونًا خطيرًا لأنه يستدعي تدخلًا خارجيًا غربيًا لضبط السلوك القطري في المستقبل، حتى لو التزمت قطر بشروط الدول المقاطعة.
المسار الثالث: "حَبْ الخشوم"
وهو تعبير خليجي يستخدم في مساعي الاسترضاء والتوافق؛ وأن الأمر سينتهي بتبادل القبلات. وهو سيناريو يقول إن قطع العلاقات الذي قامت بها الدول الأربع كان عملًا "فَجًَّا" متسرعًا قائمًا على توقعات غير دقيقة. وأن هذه الدول توقعت أن الضغوط الضخمة المفاجئة على قطر ستُحدث "انهيارًا" قطريًا واستجابة سريعة لمطالب الدول.
غير أن الكفاءة القطرية العالية في امتصاص الصدمة، وفي الإدارة الهادئة الواثقة للأزمة، وفي القدرة على إيجاد البدائل بسرعة عالية، قد أحدث إرباكًا لدى الدول الأربع.
ورغم ما بدا من أن هناك غرفة عمليات تدير موضوع المقاطعة، حيث تم قطع العلاقات في وقت واحد، وبالإجراءات العقابية نفسها، وبالتهم نفسها، والحملة الإعلامية نفسها، ودون استخدام التدرج المعتاد في علاج الأزمات بين الدول كاستدعاء السفراء، أو تحديد المطالبات قبل اتخاذ الإجراءات…؛ فإنه بدا واضحًا أن ثمة أزمة لدى هذه الدول في تحديد برنامج "اليوم التالي"، وفي تحديد الخيارات والسيناريوهات إذا ما فشل "سيناريو الصدمة".
والدليل على ذلك أن هذه الدول بعد أكثر من أسبوعين من قطع العلاقات فشلت في وضع قائمة اتهام حقيقية مقنعة ضدّ قطر، وفشلت في تحديد مطالبها وشروطها. وبدا وضعها مربكًا ومحرجًا ومنكشفًا أمام الجميع، وبدت ادعاءاتها ضدّ قطر فارغة من المحتوى والمضمون.
إذ كيف تقوم دول عربية بعملية "كسر عظم" مع دولة عربية شقيقة دون أن تعرف ماذا تريد منها؟!! حتى إن الخارجية الأمريكية عبرت عن "اندهاشها" من عدم تقديم هذه الدول لمطالب محددة من قطر.
أما قائمة الإرهاب التي قدمتها الدول الأربع (59 شخصية و12 منظمة) فهي قائمة تثير الرثاء…؛ إذ يفتقر معظمها إلى الأدلة الحاسمة، وكثير منها لا يعني قطر نفسها من قريب أو بعيد، بل وكثير منها يخالف المعايير العالمية في تعريف الإرهاب.
ومن ناحية أخرى، فإن قيام الإمارات بمعاقبة كل من يبدي تعاطفًا مع قطر بالسجن لمدة تصل إلى 15 عامًا يبرز مدى القلق من السلوك الشعبي المحتمل فيما لو تركت له الحرية الحقيقية في التعبير، خاصة أن القطاعات الشعبية العربية الأوسع تعاطفت مع قطر، لأنها لم تجد شيئًا يُدينها.
ثم إن تصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ضدّ حماس صبَّت في صالح قطر، حيث بدا أن أجندة المقاطعة الحقيقية تستهدف المقاومة الفلسطينية التي تحظى باحترام وشعبية واسعين.
وهذا يعني أن الموضوع مرتبط باجتهاد سعودي إماراتي لم يحالفه الحظ، وأنه يمكن علاجه وتداركه ضمن ترتيبات خليجية داخلية من خلال "حَبْ الخشوم"، والالتقاء في منتصف الطريق بحلول تحفظ ماء الوجه للأطراف المعنية.
ويبدو أن قدرة قطر على استلام زمام المبادرة، ورفع السقف القطري برفض التفاوض إلا بعد رفع الحصار، واللجوء إلى الوسائل القضائية لتعويض الأضرار الناتجة عن الإجراءات التي قامت بها هذه الدول…؛ تصبُّ كلها في خدمة هذا السيناريو، بعد أن فقدت الدول المقاطعة قدرتها على المبادرة ومتابعة الضغوط.
وأخيرًا، فإن تصعيد الأزمة مع قطر لا يصبّ في مصلحة الدول التي بادرت بقطع العلاقات، وينعكس سلبيًا على شعبيتها وعلى استقرار المنطقة، كما يفتح الباب واسعًا للتدخل الخارجي -وخصوصًا الأمريكي- مما سيشكل مخاطر على استنزاف ثروات المنطقة، ووقوعها تحت مزيد من الهيمنة الأمريكية. ولذلك فإن الجلوس الهادئ على طاولة المفاوضات وحلّ المشاكل ضمن البيت الداخلي الخليجي العربي هو الأولى والأفضل، خصوصًا في مثل أوضاعنا العربية المضطربة.