قائمة الموقع

"التعليم الشعبي".. هكذا أفشل الفلسطينيون محاولات تجهيل جيل الانتفاضة

2021-12-08T11:10:00+02:00
صورة أرشيفية

تحول منزل أستاذ اللغة العربية عبد الله الحواجري بمعسكر جباليا إبان انتفاضة الحجارة "الأولى" إلى مدرسةٍ مصغرة لم تتوقف عن استقبال الطلبة والطالبات على شكل مجموعات حينما شكلت اللجان الشعبية في المخيمات والأحياء لجانًا من المدرسين وطلاب المدارس والجامعات ورياض الأطفال لمواصلة العملية التعليمية.

جاءت فكرة التعليم الشعبي رفضًا للواقع الذي فرضته سياسات الاحتلال، وتجسدت هذه السياسات في إغلاق المدارس أوقاتًا طويلة، إذ مثلت في حينه مركزًا للفعاليات الوطنية ونقطة انطلاق الطلبة إلى التظاهرات والمواجهات، كما تجسدت في فرض الاحتلال سياسة منع التجوال ساعات وأيامًا طويلة.

مثلت فكرة تثوير التعليم مصدر قلق للاحتلال، فحاربها بملاحقة الناشطين والمدرسين الذين يشرفون على أنشطة التعليم الشعبي واقتحم العشرات من البيوت التي احتضنت الأنشطة التعليمية، وكذلك ساحات الجوامع التي استخدمت للغرض ذاته، غير أن هذه السياسة زادت دافعية الفلسطينيين على الاستمرار، ليثبت أن النضال الشعبي قادر على الاستمرار.

وإضافة إلى اللجان الشعبية التي شكلت بالحارات والمخيمات فقد طبقت الجامعات نظام التعليم الشعبي أيضًا ونظمت برامج تعليمية للطلبة واستطاعت بعض الجامعات في تلك الآونة تخريج عدد لا بأس به من الطلبة.

اشتباك ثقافي

تحتفظ ذاكرة حسين الحواجري نجل أستاذ اللغة العربية بصور لمشاهد التعليم في منزلهم يحرك بعضها لصحيفة "فلسطين" قائلًا: "خصص أبي غرفة وحوَّلها لفصل دراسي ووضع لوحًا خشبيًا مطليًا باللون الأخضر، ليسهل عليه شرح الدروس للطلبة الذين يريدون استكمال التعليم، كذلك أنشأت اللجان الشعبية حواصل من ألواح الزينكو وكان يتجمع فيها الطلبة ويدرسون في أثناء إغلاقات المدارس".

ويذكر حسين كيف أنشأت اللجان الشعبية مدرسة ثانوية عامة، التحق بها شقيقه، بعيدًا عن المواجهات مع جيش الاحتلال حتى لا يتعرض لهم، "ومن شدة ملاحقة الاحتلال للتعليم وإغلاق المدارس سُمحَ للطلبة باصطحاب الكتب الدراسية معهم للامتحانات".

يضيف: "كان الطلبة يأتون إلى منزلنا يوميًّا، إذ كانت الدراسة تتعطل لأسابيع وأحيانًا يصل إغلاق بعض المدارس إلى شهر كامل أو أكثر".

على الرغم من كل سياسة القمع والاستهداف المتواصل التي استخدمها الاحتلال، فإن المدرسين واللجان الشعبية استطاعوا الحفاظ على استكمال العملية التعليمية التي لم تنقطع، ويعتقد حسين أن ذلك عكس على الدوام حب الشعب الفلسطيني للتعليم والثقافة، وأيضًا عزيمة الطالب والمدرس الفلسطيني وإدراك كليهما لأهمية التعليم في مواجهة الاحتلال.

مع كل يوم كان يذهب به حسين حين كان طالبًا في المدرسة الابتدائية في السنوات الأولى لاندلاع الانتفاضة عام 1987، كان الطلبة يمشون من أمام سياج وأسلاك حديدية تفصل مدرستهم عن جنود الاحتلال، "كنت أرى مركبات جيش الاحتلال العسكرية وهي تقتحم الشوارع وتستفز الطلبة وتطلق الرصاص عليهم بغرض أذيتهم حتى قبل أن يرجموا الجيش بأي حجر، وهناك الكثير من الشهداء الطلبة الذين ارتقوا بسبب هذا الشكل من الجرائم".

يعرض صورًا أخرى من مشاهد اعتداء الاحتلال على العملية التعليمية، حين كان يفرض حظر التجوال في أثناء توجه الطلبة إلى المدارس أو حينما يكونون على مقاعد الدراسة، "وعندما نحاول العودة للمنازل يلاحقنا الجنود بين أزقة المخيم ويطلقون قنابل الغاز علينا (...) كان الخوف يتملكنا عندما تلاحقنا المركبات العسكرية فندخل إلى منازل العائلات التي تفتح أبوابها لنا، ومنا من كان يتعرض للضرب بوحشية بهراوات الاحتلال أو يصاب بالرصاص في قدميه".

يستذكر حسين كذلك كيف أغلق الاحتلال بعض المدارس بزعم منع حدوث شغب ووقف رجم الجنود بالحجارة.

وقائع وأحداث كثيرة راسخة في ذاكرة حسين، يتوقف عند بداية التسعينيات من القرن الماضي بوصفها بالمرحلة الصعبة، فمن بين الاعتداءات التي لا ينساها يوم أن طلب أستاذ مادة الأحياء من الطلبة إحضار ضفدع لتشريحه، إذ توجه وزملاؤه إلى منطقة كانت تتجمع بها مياه الأمطار في سوق معسكر جباليا، "وعندما وصلنا وضعنا حقائبنا بجوار بركة المياه، وبدأنا في البحث قبل أن يداهمنا جنود الاحتلال ويسرقوا الحقائب ويمزقوا الكتب ويرموها بعيدًا، فتدخل شبان المخيم ورجموا الجنود بالحجارة واستطعنا الهرب منهم".

زحف تحت السياج

الحاجة أم محمد البنا، لا تبتعد الصور التي تحتفظ بها ذاكرتها عما ذكره حسين الحواجري، لكنها لا تنسى صورة ابنتها الطالبة في الثالث الابتدائي حينما عادت من المدرسة مرتعدة ترتجف من شدة الخوف والهلع الذي أصابها.

تأذن لصوتها بالبوح بتلك القصة لصحيفة "فلسطين" قائلة: "كان جنود الاحتلال قد أغلقوا الطريق المؤدي من مدرسة ابنتي وهي مدرسة مصطفى حافظ بمدينة غزة الواصل لحي الصبرة حيث نسكن، فقامت بمحاولة الزحف تحت السياج لتخطي الشارع، وفي أثناء زحفها اعتقلتها قوات الاحتلال ووضعتها في صندوق الجيب، فتدخل مخاتير وأصروا على عدم اعتقال ابنتي حتى لا تصاب بصدمة، وعادت للبيت في حالة صعبة، وصدمة، وظلت مريضة طويلًا من جراء الحدث".

التعليم الموازي في المساجد

في مخيمات اللاجئين بمدينة خان يونس، لم يكن التعليم الشعبي سهلًا في أثناء فرض التجوال الذي قد يستمر أيامًا أو شهرًا، فقد كان التجمع أمام موائد الدراسة أشبه بعمل فدائي قد يعرضهم للاعتقال، يضطر بعض الطلبة للتنقل من فوق أسطح البيوت للتخفي عن عيون جنود الاحتلال المنتشرين في شوارع وأزقة المخيم.

محمود كلخ الذي كان بالمرحلة الابتدائية آنذاك، ينقل لصحيفة "فلسطين" مشاهد من تلك الحقبة تعج بها ذاكرته، يقول: "بعد إغلاقات المدارس بفعل الأحداث المتتالية في عهد الإدارة المدنية التابعة للاحتلال، اتجه الناس للتعليم الموازي داخل المساجد وكانت أشبه بدروس تقوية حيث انخرطت فيها وكانت أحد أهم أشكال البدائل الموجودة في تلك الفترة بالنسبة لي، كان المسجد المحضن التربوي الأول دينيًا وثقافيًا وتعليميًا، وكانت إدارات المساجد تنشر إعلانات بأسماء المدرسين وأوقات الدراسة".

مرت فترات انقطع فيها الطلبة عن المدارس، في إحداها انقطع التلاميذ عن الدراسة مدة سبعة أشهر، فتشكلت مجموعات دراسية بين الطلبة كان يقوم عليها مدرسون وخريجون وطلبة متفقون، وكانوا يجتمعون داخل المنازل، في حين كانت مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" توزع بطاقات للتعليم الذاتي خلال فترة التعطيل كي يستفيد منها الطلبة.

ولا ينسى كلخ، كيف كان يهاجم الاحتلال البيوت داخل المخيم لاعتقال الطلبة بتهمة التجمع، لكن الطلبة كانوا يأتون في إصرار عجيب على التعلم أكثر من اهتمامهم بالتعلم في أثناء فتح المدارس أبوابها، لإدراكهم أن الاحتلال يريد كسر الروح المعنوية عند الناس واهتمامهم بالتعليم.

يضيف: "كان الحظر يستمر لمدة شهر وشهرين وكنا نرى الشبان ينتقلون بين المنازل للوصول للحلقات وهم يخفون دفتر وكتاب المذاكرة داخل ملابسهم".

كما لا يفر من ذاكرة كلخ، الذي أصبح مدرسًا، عندما اقتحم جنود الاحتلال مدرسته وقاموا باعتقال مدرسه واعتدوا عليه بالضرب في أثناء إحدى الحصص الدراسية، "وقد أصاب هذا الموقف الطلبة بصدمة حين كنا ننظر إليه كمصدر أمان نتحصن خلفه خشية بطش جنود الاحتلال".

اخبار ذات صلة