"كرٌّ وفر".. تلك كانت السمة الغالبة على حياة المقاومين في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، الذين أطلق عليهم لقب "المُطاردين"، في وقتٍ كان فيه الحصول على مكان آمن في ظل وجود قوات الاحتلال الإسرائيلي في شوارع قطاع غزة كالسير في "حقل ألغام"، لكن المطاردين الذين أسسوا لاحقًا كتائب القسام، وجدوا في بيوت المواطنين مُتسعًا لهم، في خطوة حملت بين ثناياها بدايات الحاضنة الشعبية لانطلاق حركة المقاومة الإسلامية حماس.
تحملت العائلات كمًّا هائلًا من الضغوطات والترهيب والتهديد من الاحتلال، إلا أن إدراكها صدق الشباب المقاومين والتزامهم جعلها تشاركهم أجر الجهاد بكل رضا، دفاعًا عن الأرض المحتلة.
عرفت الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت في ديسمبر/ كانون الأول 1987 باسم "انتفاضة الحجارة"، لكون الحجارة كانت أداة الهجوم والدفاع الرئيسة التي استخدمها الشعب الفلسطيني في التصدي لجيش الاحتلال.
الحاضنة الشعبية
في أحد بيوت مخيم البريج وسط القطاع، قضى المطارد الشهيد حامد القريناوي كثيرًا من وقته، فقد خصصت العائلة له مخبأ داخل منزلها لم يتمكن الاحتلال من الوصول إليه على الرغم من اقتحام المنزل مرارًا، فإيمان العائلة بضرورة حمايته ومشاركتها له في عمله الجهادي جعلت جميع أفرادها مشاركين للقريناوي في مهامه.
يقول رب الأسرة "أبو علي": "كان منزلي واحدًا من عدة منازل آمنة خُصِّصت لإيواء المطاردين، ومكث لدي القريناوي مدة طويلة، كنا نتولى فيها حمايته واستقبال اجتماعات زملائه في العمل العسكري، والمساهمة في تأمين الطريق له في أثناء الخروج والعودة".
وكان للنساء دور مهم في إيواء المطاردين، وتأمين الطرق لهم، حتى في نقل السلاح إليهم، علاوةً على دورهن المهم في صنع الطعام والشراب وغيرها من الأمور المعيشية الأساسية، وفق حديث أبو علي لصحيفة "فلسطين".
وأشار إلى أن المطارد القريناوي كان يشتري السلاح من ماله الخاص، مع أن الحصول على السلاح في وقتها كان أمرًا بالغ الصعوبة، حتى إنه أمضى مدة طويلة من الوقت لا يملك إلا خنجرًا، وبشق الأنفس استطاع لاحقًا الحصول على سلاح "كارلو".
ومر وقت أطول إلى أن تمكن القريناوي من حيازة مسدس، لكن دون ذخيرة، وما إن تمكن من الحصول على ذخيرة حتى خرج فورًا لتنفيذ عملية ضد الاحتلال.
وكان الشهيد القريناوي يخرج من المنزل ويعود إليه متنكرًا، على حين كانت أسرة "أبو علي" تبث في المنطقة إشاعة مفادها أنه غادر القطاع، لتعمية عيون العملاء والاحتلال عنه.
بيوت آمنة
ولم يكن القريناوي المطارد الوحيد الذي آوته أسرة "أبو علي"، فقد استضافت أيضا الشهيد القسامي محمد قنديل، اللذين كانت أمنيتهما الوحيدة ألا يستشهدا إلا بعد أن يتمكنا من تشكيل مجموعات جهادية جديدة.
وفي الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 1993 طوقت قوات الاحتلال بكل أجهزتها البرية والجوية مخيم البريج من الصباح الباكر وحتى مغرب ذلك اليوم، وانتهى الطوق باشتباك مسلح بينها وبين المطاردين القريناوي وموسى السيد، انتهى باستشهادهما بقصف من طائرات الاحتلال مزق جسديهما.
يقول "أبو علي": "استشهد القريناوي في منزل آمن آخر، ودفنه الاحتلال ورفيقه في أكياس بلاستيكية في مقبرة الزوايدة، ذهبنا لاحقًا أنا ومجموعة من الرفاق وحفرنا القبرين واستخرجنا جثمانيهما وكفناهما، وأقمنا لهما سرادق عزاء لم تسلم هي الأخرى من انتهاكات الاحتلال الذي قام بمداهمتها وتخريبها".
ولم يكن المطارد القريناوي، الذي كان يقود المنطقة الوسطى والجنوبية في كتائب القسام آنذاك، سوى جزء من منظومة عسكرية واسعة منتشرة في قطاع غزة عامة والمحافظة الوسطى خاصة كان عنوانها البارز "المُطاردين" الذين نجح الاحتلال في التعرف إلى هوياتهم الحقيقية فاضطروا للتواري عن الأعين، عدا عن مئات الشباب الذين لم ينجح الاحتلال في كشف هوياتهم، وكانوا يتنقلون بكل أريحية.
يحدث "فلسطين" عن تلك المرحلة القيادي في حركة حماس أبو عبد الله، بقوله: إن مرحلة الانتفاضة الأولى كانت صعبة بكل المقاييس على المقاومين والمواطنين على حد سواء، فقد كان الاحتلال موغلًا في إرهابه وقمعه.
ويشير إلى أنه رغم الصعوبات الكبيرة في الاختفاء التي كان يلاقيها "المُطاردون"، إلا أنهم كانوا لا يتوانون عن مساعدة أبناء شعبهم وتخفيف أعباء إجراءات الاحتلال عليهم، فكانوا يقطعون مسافات طويلة لجلب المواد الغذائية وتوزيعها على بيوت المواطنين في مخيم البريج.
ولم تكن تلك المهمة بأسهل من العمل العسكري، فقد كانوا يُضطرون للاختباء من قوات الاحتلال وهم في الطريق إلى أماكنهم المقصودة، لكيلا تستولي القوات على تلك المواد في وقت كانت تفرض طوقًا أمنيًّا على المخيم لأوقات طويلة، حتى لا يجد المواطنون في بيوتهم أي نوع من أنواع الطعام أو الحليب للأطفال.
ويتابع "أبو عبد الله" أن المطاردين والمقاومين كانوا يحضرون مواد غذائية ويقسمونها في أكياس ويلقون بها من فوق أسطح البيوت بجانب المدخل ليلًا، فيستيقظ أهل المنزل فيجدون ما يكفيهم من الطعام، وهذا ما عزز مكانتهم عند الأهالي والعائلات، حتى أصبحوا ظهيرًا شعبيًّا للمقاومة في كل خطواتها.
ولم تتوقف محاولاتهم للتخفيف عن المواطنين عند توفير المواد الغذائية، فقد كانوا أيضا يُسهمون في توفير مياه الشرب التي كانت تنقطع عن البيوت في أثناء الطوق الأمني.
نواة القسام
إضافة إلى ذلك، كان للمطاردين دورٌ في وقف الخلافات العائلية في المخيم، والحفاظ على النسيج الاجتماعي.
وبين القيادي في حركة حماس "أبو أنس" أن المُطاردين كانوا النواة الأولى لجيش المقاومة الفلسطينية الحالي، الذي نجح لاحقًا في دحر قوات الاحتلال من غزة، مستشهدا على ذلك بدور المطاردين في تطور العمل العسكري للحركة، بقوله: "بدأت الإرهاصات الأولى للعمل العسكري لحماس قبل الانتفاضة الأولى بسنوات، بجهود عدد من القادة منهم القائد الشهيد المفكر د. إبراهيم المقادمة عام 1984 من مخيم البريج".
وتلا ذلك تكوين جهاز "مجد" الخاص بملاحقة العملاء عام 1986 (منظمة الجهاد والدعوة) وجهاز "مجاهدو فلسطين" المختص بالعمل العسكري، إلا أن وتيرة العمل العسكري تصاعدت مع اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987.
وفي عام 1988 تعرض الجهازان لحملة اعتقالات من الاحتلال، شملت عددا من المقاومين، منهم: روحي مشتهى، ويحيى السنوار، وفتحي حماد، وغيرهم، لكن ذلك لم يثبط عزيمة المقاومين، فقد اختطفوا ومنهم المقاوم محمد الشراتحة، الجنديين الإسرائيليين آفي سبورتس وإيلان سعدون.
ويضيف "أبو أنس" أنه في عام 1991، وفي خضم انتفاضة الحجارة تم تشكيل جهاز عسكري تابع لحركة حماس، ثم أعلن رسميًّا تسميته بكتائب الشهيد عز الدين القسام عام 1992، ما فتح أمر المطاردة من الاحتلال لعناصره على مصراعيه.
ويشير إلى أن هناك أسماء للمطاردين لمع نجمها في المنطقة الوسطى منها، الشهداء حامد القريناوي، ومحمد قنديل، وطارق دخان، وخالد الحسنات، وغيرهم ممن دوخوا الاحتلال وأتقنوا فن التخفي عن الأنظار بشكلٍ جعل المحتل يجند كل إمكاناته للعثور عليهم، وفي النهاية باء بالفشل، فها هي المقاومة قد اشتد عودها، وفرضت معادلاتها.