استطاع الفلسطينيون منح الحجر قيمة كبيرة عندما رجموا جنود الاحتلال ودورياته إبَّان انتفاضة الحجارة التي اندلعت عام 1987، وشكَّل إحدى أهم الوسائل في مواجهة الترسانة العسكرية الإسرائيلية المتطورة، كما يقول مراقبان.
وإذ يؤكد المراقبان في حديثيْن لـصحيفة "فلسطين"، أن انتفاضة الحجارة شكلت نقطة فاصلة في تاريخ صراع الشعب الفلسطيني مع (إسرائيل)، فهما يعتقدان أنها جاءت في وقت مهم جدًّا بالنسبة للقضية الفلسطينية بعد مدة رخاء طويلة عاشها الاحتلال ومستوطنوه، وتصاعدت انتهاكاته في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس المحتلتيْن.
وكان الحجر والمقلاع حاضرًا في جميع المواجهات في الأراضي المحتلة، وتطورت وسائلها إلى استخدام السكين والمولوتوف.
ورغم مضي سنوات طويلة على انتفاضة الحجارة، فإن الوسائل ذاتها ما زالت قائمة إلى يومنا هذا، ويستخدمها الشبان الثائرون في مواجهات عديدة تندلع عند نقاط التماس مع الاحتلال والمستوطنين في القدس والضفة الغربية اللتين تضاعف فيهما الاستيطان في العقدين الأخيرين، وحتى في غزة المحررة من الاحتلال استخدم المتظاهرون نفس الوسائل وأدخلوا عليها وسائل جديدة، في مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار التي انطلقت في مارس/ آذار 2018، تأكيدًا على حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم المهجرة.
مواجهة جديدة
ويؤكد منسق الحملة الشعبية لمقاومة الجدار والاستيطان في الضفة الغربية جمال جمعة، أن انتفاضة الحجارة تميزت باستخدام وسائل بسيطة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بكل معداته العسكرية وقوته.
وأكد جمعة لـ"فلسطين"، أن انتفاضة الحجارة ووسائلها فرضت على جيش الاحتلال نوعًا آخر من المواجهة لم يعتده من قبل، ومكنت المقاومة الشعبية من أن تفرض نفسها على الساحة ولسنوات طويلة.
وبيَّن أن الانتفاضة تميزت بالمشاركة الجماهيرية الواسعة حتى بعد أن أخذت الشكل التنظيمي لها، مبينًا أن الأجيال التي تلت جيل الانتفاضة الأولى استلهمت التجربة وأصبحت جزءًا من تراث المقاومة الشعبية، وتجلى ذلك عندما اندلعت انتفاضة الأقصى عام 2000، وتشكلت الحملة الشعبية لمقاومة جدار الفصل العنصري عام 2002.
وعلى إثر ذلك، كما يقول جمعة، بدأت عملية تنظيم المواطنين في القرى المهددة بعزلها واختراقها بالجدار، وتشكلت لجان شعبية وبدأت في عملها كواحد من الأنماط المستخدمة في انتفاضة الحجارة التي تخللها تشكيل لجان أحياء شعبية في كل مخيم وقرية ومدينة، ونتج عنها قيادة وطنية للانتفاضة.
وعدَّ أن "المسيرات والمواجهات وجهًا لوجه مع قوات الاحتلال باستخدام الحجر وأشكال المقاومة الشعبية، جميعها مبنية على الإرث الفلسطيني وهذا الإرث لم يقف عند حدود فلسطين، واستلهمته تجارب شعبية في دول أخرى".
قمع عنيف
وحول لجوء جيش الاحتلال إلى قمع المتظاهرين بعنف شديد في انتفاضة الحجارة، واستخدام الرصاص المتفجر، قال جمعة: إن (إسرائيل) لم تستطِع وقف هذه الانتفاضة واعتقدت أنها باستخدام كم هائل من القوة وإيقاع الإصابات والخسائر في الأرواح تستطيع أن ترهب الفلسطينيين.
وذكر أن جيش الاحتلال استخدم خلال انتفاضة الحجارة سياسة تكسير عظام المتظاهرين، ونفذ عمليات قمع وبطش وحشي لمختلف مناحي الحياة في غزة والضفة الغربية والقدس، مشيرًا إلى أنها لم تتعلم الدرس بعد، ولم تقتنع أن القوة الشعبية كبيرة وهائلة ولا يمكن قمعها بالقوة المسلحة، لأن ذلك سيزيد من جدوى المقاومة.
وأشار إلى أن النتيجة كانت عدم انطفاء شعلة المقاومة الشعبية، وما زالت مدن الضفة الغربية تشهد العديد من المواجهات يوميًا رغم تردي الأوضاع هناك والإشكاليات الكبيرة التي تحول دون أن اندلاع انتفاضة شعبية شاملة؛ في إشارة إلى التنسيق الأمني بين السلطة و(إسرائيل).
وعدَّ أن الانتفاضة نجحت في مواجهة مخططات الاحتلال، وبناءً عليها أعيدت منظمة التحرير إلى الأراضي المحتلة، "لكن للأسف انتهينا باتفاق (أوسلو) الذي شكل كارثة للشعب الفلسطيني، بعدما استطاع الشباب الفلسطيني مواجهة أقوى جيش في المنطقة وأكبرها وأكثرها امتلاكًا لأسلحة متطورة، عدة وعتادًا، وقدم العديد من المتظاهرين الكبار والصغار من كلا الجنسين، بطولات غير مسبوقة.
مواجهة مفتوحة
وأكد الخبير في الشؤون العسكرية العميد رفيق أبو هاني، أن انتفاضة الحجارة فتحت سبل المواجهة الشعبية العارمة ضد الاحتلال بعد مدة طويلة ارتاح خلالها الاحتلال أمنيًا وعسكريًا وسياسيًا.
ونبَّه أبو هاني لـ"فلسطين"، إلى أن الانتفاضة شكلت وعيًا جمعيًّا لدى الشعب الفلسطيني بأن هذا العدو يجب أن يزول عبر مواجهته بما يملك من وسائل، ولم يجد حينها إلا الحجر لمواجهة جيش الاحتلال، كما أنها شكلت نقطة فارقة على مستوى الإرادة الوطنية والشعبية للشعب الفلسطيني، وأشغلت العدو في كل المناطق ضمن مرحلة نضالية شارك فيها أبناء شعبنا كلهم.
وأشار إلى أن وسائل الانتفاضة من حجر ومقلاع وسكين، شكلت استنزافًا لأمن الاحتلال، وتطور الحجر إلى المواجهات المباشرة التي خاضها الشهيد عماد عقل، أحد أبرز قيادات القسام خلال عقد التسعينيات، وتطور الأمر فيما بعد إلى عمليات تفجير واستشهادية على يد الشهيد يحيى عياش.
ونبَّه إلى أن هذا "التطور النوعي لم يكن لولا اندلاع انتفاضة الحجارة التي جعلت كرة الثلج تكبر حتى وصلنا إلى مرحلة أصبحت فيها المقاومة الفلسطينية عصية على الكسر، وتطور أداؤها إلى رشقات صاروخية تصل إلى عمق الأراضي المحتلة".