يقع تصنيف بريطانيا لحركة المقاومة الفلسطينية الإسلامية "حماس" منظمة إرهابية في سياق ديمومة المنظورات الإمبريالية الغربية؛ التي زرعت ورعت الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين، إذ لا تعدو (إسرائيل) عن كونها حارسا للإمبريالية في منطقة الشرق الأوسط. فقد تزامن وجود إسرائيل في المنطقة مع ظهور الإمبريالية، وقد تبادلت الدول الاستعمارية وفي مقدمتها أمريكا وفرنسا وبريطانيا حضانة ورعاية المستعمرة الإسرائيلية بوصفها قاعدة أمامية للإمبريالية في المنطقة، ولم تتبدل وظيفة إسرائيل كحارس لمصالح الغرب مع تغيّر أعداء الإمبريالية في المنطقة؛ من الشيوعية والقومية العربية وصولًا إلى الإسلام السياسي.
عقب بروز الإسلام السياسي بعد ثورات الربيع العربي والذي يهدف في جوهره إلى بناء كينونة سياسية مناهضة للإمبريالية والصهيونية، دب الخوف في أوصال المشروع الإمبريالي الصهيوني، وسرعان ما قاد ثورة مضادة؛ لاستئصال الإسلام السياسي والعمل على إعادة بناء الشرق الأوسط عبر مداخل الإرهاب.
وتجلت إعادة بناء المنطقة على أسس سياسية واقتصادية وأمنية من خلال مشروع "صفقة القرن"، وما ترتب عليه من اتفاقات "أبراهام" التطبيعية، إذ يقوم المشروع الإمبريالي الصهيوني في المنطقة على تصفية القضية الفلسطينية، وطبعنة مركزية إسرائيل وترسيخ دورها القيادي الأمني الحراسي في المنطقة لرعاية وحماية الأنظمة الاستبدادية، وذلك بإدماج المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية، تحت ذريعة مواجهة خطر مشترك اختزل في"الإرهاب"، الذي بات يكافئ "الإسلام السياسي" وحركاته المقاومة، بنسختيه السنية والشيعية.
جاء تصنيف بريطانيا لحركة حماس منظمة إرهابية استكمالًا لعملية إعادة بناء المنطقة في سياق توحيد المنظورات الإمبريالية؛ ببناء سردية موحدة منسجمة حول الإرهاب بدمج الأبعاد السياسية والعسكرية. فقد كانت بريطانيا تفصل بين الجناح السياسي والعسكري لحماس، وهو موقف كان يتعارض مع تصنيفها منظمة إرهابية محظورة بجناحيها من قِبَل الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي، وبهذا أصبحت لندن في صف أقرب لواشنطن بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. ولا غرابة أن تصريحات الوزيرة البريطانية حول حظر حماس جاءت خلال زيارة رسمية لواشنطن في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، حيث أعلنت وزيرة الداخلية البريطانية أنها شرعت في استصدار قانون من البرلمان يصنف "حماس" منظمة "إرهابية"، ويحظرها في المملكة المتحدة.
سرعان ما أعلنت الوزارة في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 تصنيف الحركة بجناحيها السياسي والعسكري "منظمة إرهابية"، وذلك على خلفية تصديق البرلمان على القرار. وقالت الداخلية البريطانية إن "جماعة حماس الإرهابية أصبحت اليوم منظمة إرهابية محظورة في المملكة المتحدة بكاملها بعد موافقة مجلس العموم البريطاني"، وفق تعبيرها. وهذا يعني، وفقًا لبيان الوزارة البريطانية، أن "أعضاء حماس أو أولئك الذين يدعون إلى دعم الحركة يمكن أن يواجهوا عقوبة السجن لمدة تصل إلى 14 عامًا".
يدرك كافة الناس في المنطقة أن حماس حركة مقاومة إسلامية وأن إسرائيل دولة احتلال استعمارية، وتكشف المسألة الفلسطينية وحالة حماس عن ذاتية مصطلح "الإرهاب" وغير موضوعيته. فقد بات من المعروف أن مفهوم الإرهاب كما توضح الدراسات النقدية لا يمكن فهمه دون فحص علاقاته الملتبسة بالمصالح الاستراتيجية التي تخدمها دوائر المعرفة المرتبطة بالاتجاهات الكلاسيكية في دراسة الإرهاب، إذ يشكل مصطلح "الإرهاب" دالًا مبنيا سياسيًا، لا تجمعه بالضرورة علاقة تناسب طبيعية بالمدلول، ويرتبط بإرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، وهو خطاب أدائي للسلطة السيادية في علاقات القوة، يرتبط بالمصالح الجيوسياسية كتوظيف سياسي. إذ تستخدم الولايات المتحدة مصطلح "الدولة الراعية للإرهاب"، ضد الكيانات السياسية المعارضة للتوجهات الأمريكية، وهوية الإرهابي رهن التسمية، وليس الفعل في سياق خطابي تحدده المصالح القومية.
وفي الوقت الذي يصعب من الناحية النقدية وصف حماس بالإرهابية، يمكن بسهولة وصف إسرائيل دولة إرهابية. وكانت بوليفيا قد أدرجت فعلًا الكيان الإسرائيلي على قائمتها للدول الإرهابية في تموز/ يوليو 2014؛ احتجاجًا على العدوان الذي شنه جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة آنذاك.
بؤس التصنيف البريطاني لحركة حماس منظمة إرهابية يكتمل مع مبرراته الغريبة، فقد برّرت وزيرة الداخليّة التصنيف الجديد لـ"حماس" في إطار ما أسمته "جهود مكافحة معاداة السامية، وضمان أمن المجتمع المحليّ البريطانيّ". فالمفارقة أن الحكومة اليمينية الحالية التي كانت سببًا في تنامي الخطاب اليميني الذي نتج عنه جملة من حوادث معاداة السامية، تذهب إلى نقل المعركة إلى مكان آخر حيث الإسلاموفوبيا سوق مزدهرة. والمفارقة الأخرى أن لا وجود لحركة "حماس" في بريطانيا أصلًا، بل إن حماس لا ذكر لها في التصنيف الرسميّ البريطانيّ للتهديد الإرهابيّ على الأمن الوطنيّ (المحليّ) في البلاد، وهو ما يكشف اعتباطية مبررات التصنيف الذي يدعي أنه "من شأنِه حمايةَ اليهود في بريطانيا".
لا جدال في أن تنامي الدعم الشعبي في بريطانيا للقضية الفلسطينية ومناهضة الاحتلال الإسرائيلبي وتفهم مقاومة حماس بعد الحرب الأخيرة على غزة؛ هو الدافع خلف التصنيف البريطاني، وقد برز ذلك بوضوح في قضية إقالة ريبيكا لونغ بايلي، من "حكومة الظل" المعارِضة، التي يرأسها رئيس حزب العمال الجديد، كير ستارمر. فقد فُصلت بسبب تغريدة نشرتها في موقع "تويتر"، قالت في جزء منها إن "العنصرية الهيكلية قضية عالمية.. والتكتيكات التي استخدمتها الشرطة في أمريكا، والدَّوْس على عنق جورج فلويد، دُرّست في حلقات تدريبية مع المخابرات الإسرائيلية"، فأعلن ستارمر على الفور أن المقارنة تُعد بمثابة "نظرية مؤامرة معادية للسامية". وفي الحقيقة أن الصياغة التي طرحها ستارمر هي التي تحمل دلالات عنصرية، إذ أنها تخلط بشكل خاطئ بين اليهود والتصدير الإسرائيلي الفخور لتقنيات العنف الاستعماري.
إن تصنيف حماس منظمة إرهابية في بريطانية جاء مع الحكومة اليمينية وتراجع اليسار، في ظل تنامي خطاب مناهضة الإمبريالية والتضامن مع الشعب الفلسطيني. وحسب الناشط في حزب العمال البريطاني، وطالب الدراسات العليا في جامعة كامبريدج، إيد مِكنالي، فبالكاد تم تناول تشريح أسباب هزيمة "الكوربينية" (نسبة لجيرمي كوربين) منذ كانون الأول/ ديسمبر 2019، مركزية الهجمات المنسقة على مناهضة الإمبريالية وحركة التضامن مع الفلسطينيين. إذ هدفت هذه الهجمات إلى تأديب وإسكات الخطاب والنشاط المناهض للإمبريالية، ولقد سعى القائمون عليها، وبنجاح مقلِق، إلى ربط مجرد التعبير عن أبسط الحقائق حول الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، والتشريد المستمر للشعب الفلسطيني، بـ"التطرف" و"التعصب". والأفدح من ذلك، أدت استجابة كوربين والمؤيدين البارزين لقيادته الحزبية إلى تفاقم المشكلة.
قبل الاختراق المفاجئ الذي حققه كوربين في صفوف الحزب عام 2015، عُرف القيادي اليساري بوجوده الدائم في الاجتماعات والمظاهرات المتضامنة مع فلسطين. وبالطبع، اعتُبرت الفترة التي سبقت قيادته للحزب، من نواح كثيرة، لحظة قوة تاريخية لحركة التضامن مع فلسطين. فقد تمتعت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل (بي دي إس) بقاعدة ضخمة في أروقة الجامعات البريطانية، بالِغةً ذروتها حين تبنى الاتحاد الوطني للطلاب حركةَ المقاطعة، كسياسة رسمية تجاه إسرائيل، ناهيك عن أن شوارع لندن عجّت بعشرات آلاف الأشخاص في نهايات أسبوع متتالية، احتجاجا على القصف الإسرائيلي الإجرامي لقطاع غزة في صيف 2014، والذي أدى إلى استشهاد أكثر من 1400 فلسطيني. وقد شارك في إحدى هذه المظاهرات ما يفوق الـ150 ألف شخص.
وساهمت حملات حازمة بتغيير الرأي العام حول فلسطين، إذ أظهر استطلاع للرأي أجرته "خدمة بي بي سي العالمية" عام 2014، أن 72 في المئة من البريطانيين لديهم آراء "سلبية في الغالب" تجاه إسرائيل. وعقب حملة منسقة أصبح تغييب الشعب الفلسطيني واضحًا، بعدما تبنت اللجنة التنفيذية الوطنية لحزب العمال "وثيقة العمل" الخاصة بـ"التحالف الدولي لذكرى المحرقة"، حسب إيد مِكنالي، والتي تعتبر أن أحد الأمثلة على معاداة السامية هو الادعاء "بأن وجود دولة إسرائيلية هو عمل عنصري".
يقوم جوهر التصنيف البريطاني لحماس منظمة إرهابية على محاولة تطويع الحركة؛ من خلال عزلها ودفعها نحو قبول الحلول الإمبريالية الصهيونية والاستبدادية. فالحلول التي تقدمها الولايات المتحدة وأوروبا وحلفاؤهما من المستبدين العرب تحاول إعادة انتاج الحلول القديمة؛ التي تستند إلى خرافة حل الدولتين، والذي يقوم على ضمان وجود دولة إسرائيل بسماتها العنصرية اليهودية ونظام فصل عنصري، إلى جانب إقامة دولة فلسطينية وهمية، ولا مانع بإدماج حركة حماس إذا سلكت طريق منظمة التحرير الفلسطينية في مسار أوسلو، بالاعتراف بإسرائيل والإقرار بالاتفاقية، وهو ما عبّر عنه الاتحاد الأوروبي بدعوة حماس إلى طاولة المفاوضات بعد التصالح مع السلطة الفلسطينية، وهو ما أشار إليه الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ ومفهومه للسلام الذي يقوم على وجوب اعتراف المنطقة بشكل لا لبس فيه بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية مستقلة.
في حقيقة الأمر أن التصنيف البريطاني المنسجم مع الأمريكي والأوروبي، لم يكن ممكنًا دون أنظمة الاستبداد العربي، التي تتعامل مع حركة حماس فعليًا كمنظمة إرهابية. فعلى مدى سنوات جرت عمليات ملاحقة واعتقال لأعضائها، والتشديد على تجفيف تمويلها، وبلغت الحملة أوجها بعد الانقلاب على الربيع العربي وإعادة بناء الدكتاتوريات العربية من مداخل الإرهاب، حيث شهدت هذه الحقبة البائسة حملة عربية شعواء على حركة حماس، رغم تأكيدات حماس على كونها حركة مقاومة للاحتلال الصهيوني، ولا تتدخل بالشؤون الداخلية للدول العربية. وقد التزمت حماس الصمت تجاه الحملات ضدها دون جدوى، وقد تنامت الحملة ضد حماس بعد الإعلان عن صفقة القرن بوصف الحركة بالإرهابية.
خلاصة القول أن تصنيف بريطانيا لحركة المقاومة الفلسطينية الإسلامية "حماس" منظمة إرهابية يقع في سياق ديمومة المنظورات الإمبريالية الغربية التي ترعى الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين. إذ لا تعدو (إسرائيل) عن كونها حارسا للإمبريالية في منطقة الشرق الأوسط، وقد دفع تنامي النزعة المعادية للإمبريالية والصهيونية في المنطقة والعالم سدنة الإمبريالية إلى إغراق المنطقة في حالة من البؤس والجوع والخوف، عبر دعم سلسلة من الحروب الأهلية المدمرة على أسس جهوية وطائفية للحيلولة دون نشوء كيانات قومية ديمقراطية يشكل الإسلام أحد أركان هويتها وكينونتها. ومنذ الانقلاب على ثورات الربيع العربي تشكل تحالف بين الإمبريالية الغربية والمستعمرة الصهيونية والأنظمة الاستبدادية؛ يهدف إلى منع أي مبادرة في المنطقة تسعى إلى الانعتاق من قيود الإمبريالية العالمية والصهيونية الإقليمية والدكتاتورية المحلية.