دون سترات مائية ركب المسافرون الشباب العشرة قاربًا خشبيًا يبلغ طوله نحو أربعة أمتار يشبه قوارب الصيد، فاعترضوا للمهرب: "هدا قارب صغير! كيف بدنا نبحر فيه؟"، لكن لا خيار أمامهم إلا الصعود وخوض رحلة غير مضمونة النتائج، بعدما طمأنهم: "في قارب كبير راح يستقبلكم بالبحر وينقلكم على جزيرة "كوس" اليونانية.
"كان الموجُ هادئًا في بداية المسير ولكنه تغير في المياه الإقليمية فأصبح هائجًا وبدأت المياه تدخل إلى قاربنا الخشبي ولم نجد السفينة، ثم اتصلنا به، فقال لنا وكأنه يرمينا إلى الموت: "امشوا.. امشوا، بدي أبعتها"، كان البحر عميقًا والموج يضرب بالقارب من كل جانب حتى ملأه بالمياه، حاولنا إخراجها لكننا لم نستطع مقاومة الرياح".
يحيى بربخ (26 عامًا) الذي عاش "رحلة الموت" واستغاث بوالدته عبر الهاتف في اللحظات الأخير: "يما أكلنا السمك!"، تسرد صحيفة "فلسطين" معه حكاية رحلة لم تكتمل بعد عودته لغزة.
يقول: "كنا نحاول إخراج المياه بملابسنا لكن موجة واحدة كانت كفيلة بملء القارب".
النجاة بقارب خشبي "مهترئ" -أغنى بطون المهربين والوصول لبر الأمان- هي "معجزة"، كما يصفها بربخ، "ولن ينسى كل شخص فينا مر بهذه التجربة كل ثانية ودقيقة أبحر فيها دون ربان، لن ننسى اللحظات التي أطبق فيها البحر على أنفاسنا بعدما لطمت الأمواج أحلامنا".
لحظات مروعة
من كثرة المياه بدأت مقدمة القارب تغطس في المياه، لحظات مرة قبل أن تبدأ اللحظات المروعة بعدما جاءت ريح قوية وقلبت القارب على الجهة اليمنى.
يستذكر تفاصيل المشهد "المرعب" الذي عاشه: " ظل أنس أبو رجيلة وابن عمه محمود، ونصر الله الفرا الذين جلسوا على جهة واحدة، متشبثين بالقارب وهو يغرق إلى أن سقطوا معه داخل المياه (..) بدأنا المناداة عليهم، لكنهم اختفوا ولم يرد أحد منهم، بقينا سبعة أشخاص فوق سطح مياه البحر، لكن لشدة ارتفاع الموج وقوة التيارات ابتعدنا عن بعضنا، وصار كل واحد فينا يحاول النجاة بنفسه، فتجردت من ملابسي وألقيت حقيبة الأموال والهاتف لأخفف الحمل".
بقي "يحيى" لمدة ساعتين ونصف الساعة يصارع الموج والموت، "كل موجة كانت تسقطني بالأسفل ثم أصعد للتنفس، وهكذا عشت تلك المدة حتى أنني في النهاية وبسبب الإجهاد الكبير والتعب بدأت أستسلم وأيقنت أنني سأموت، ومرت أمامي لحظات وصور وأفكار، كنت فاقد الأمل لكني أحاول النجاة بحياتي، إلى أن لمحت قارب قوات خفر السواحل التركية، حينها شعرت أن روحي ردت إليّ".
يقفز مشهد النجاة أمامه: "صرت أضرب المياه بيدي، وأنادي، أصرخ، ألوح لهم، في نفس الوقت كان الموج ينزلني للأسفل، لم أشعر بنفسي إلا وأنا على سطح القارب بعدما أغمي عليّ للحظات ثم بدؤوا بالبحث عن الشباب حتى أخرجوهم، كان كل واحد منا بعيدا عن الآخر مسافة كيلو متر تقريبًا، كان هاتف أحدهم ما زال يعمل فقمت بالاتصال على أمي ومناداة الاستغاثة التي سمعها الجميع: يما أكلنا السمك".
توفي أنس ومحمود ونصر الله غرقًا، يستحضر آخر صورة رآهم فيها "كانوا يجلسون على المقاعد من اللحظات الأولى لصعود القارب دون حركة ولا صوت ولا انفعال، حتى أنهم لم ينهضوا لإخراج مياه البحر معنا، بقوا صامتين، شعرت أنهم ميتون من قبل أو شاهدوا الموت قبلنا، لمدة ساعة ونصف كنا نحاول إخراج مياه البحر قبل انقلاب القارب".
رحلة جديدة
مكث يحيى ورفاقه نحو عشرين ساعة في الميناء، ثم تم نقلهم لمركز إيواء بعدما خضعوا لتحقيقات الشرطة التركية مدة أسبوع حول طبيعة المهربين إلى أن أخلي سبيلهم.
بعدها عاش الناجون السبعة رحلة أخرى من المعاناة: "أخلي سبيلنا مساء في منطقة تسمى موغلا بالقرب من مدينتي بودروم وأزمير، بين الجبال بدون أكل أو شرب، انتظرنا حتى الصباح حتى ساعدنا أهل المنطقة وذهبنا لفندق وهناك قررت العودة إلى غزة".
لتأمين "مستقبل" لطفليه إياد (3 سنوات) وغادة التي لم تتجاوز العام، خرج يحيى في رحلة محفوفة في المخاطر، بعدما انعدم الأمل لديه بإيجاد فرصة عمل في القطاع المحاصر، فالشاب الذي عمل بعدة مهن منها: سائق أجرة، وحلاق، وجد نفسه متعطلا عن العمل في عام 2018.
وأمام بحث لم يفضِ إلى فرصة قرر البحث عنها خارج أسوار غزة فسافر إلى تركيا في 13 أكتوبر/ تشرين أول 2021.
سمع عن "الحياة الوردية" في أوروبا لكنه وجد عكس ما سمع، يقول: "عندما ذهبنا لمدينة بودروم كانت تكلفة الإبحار ضعف ما توقعنا، بدأنا نبحث عن المهربين وهم أيضًا يبحثون عن أي مهاجر، ويعرضون علينا إغراءات كثيرة".
سبقت الرحلةَ المرعبة، رحلتان حاول فيها يحيى ورفاقه عبور تركيا عن طريق البحر للوصول إلى جزيرة "كوس" اليونانية الأقرب لتركيا بنحو عشرين كيلو مترًا، بخلاف الجزر الأخرى التي تبعد 50 كم.
في المحاولتين السابقتين عاش يحيى ورفاقه مشاهد لا تقل صعوبة عن صدمة البحر، "ففي المرة الأولى تفاجأنا بحمولة ركاب تزيد على ثلاثين شخصًا رغم أننا اتفقنا معه على عشرة ركاب، وكان محرك القارب متعطلاً، لكنه ضلّلنا وقال لأحدنا كما يفعل بقية المهربون: "اجلس على الماتور وأبحر به حتى تصل إلى اليونان" وكأن الأمر سهل، لكن خفر السواحل التركية داهم القارب المطاطي واعتقلنا وعشنا نفس إجراءات التحقيق وتركنا في منطقة "مغولا".
وفي المحاولة الثانية، كان العدد أقل بعشرة أشخاص، إلا أن خمسة ثقوب في القارب المطاطي جعلت الركاب يعترضون في البداية، "أقنعنا المهرب وأعطانا منفاخًا يدويًا وقال لنا: "انفخوا فيه طوال الطريق ولن تغرقوا!"، وبالفعل سرنا، وفي البحر غمرتنا المياه فاتصلنا بالشرطة التركية، وجاء خفر السواحل ومن شدة سرعته صعد على القارب وسقطنا بالمياه وكان هناك أطفال، ثم حاولنا في المرة الثالثة التي تعرضنا فيها للغرق".
رجع يحيى لغزة، استقبلته عائلته عبر معبر "رفح" كمن يعود من الموت، أيضًا رجع أنس ونصر الله على نعشٍ "كانت صفحة تعلمت منها أن تراب بلادنا أفضل من كل الدنيا، لأن المهرب يراك مالاً وليس إنسانًا لديك عائلة وأسرة، يحضرون قوارب مهترئة لا يزيد ثمنها على 500 دولار في حين يحصل من المهاجر الواحد على ثلاثة آلاف دولار".