لم نكن نتخيل حتى في أسوأ التوقعات، أن نرى تدريبات عسكرية بين جيوش وقادة جيوش عرب، وقوات تابعة للعدو الصهيوني، هذا حدث استثنائي بكل المقاييس، صحيح أن قيام الكيان الصهيوني حظي بدعم عربي (من تحت الطاولة وفوقها أيضًا!) ولولا الدعم والحماية العربية لتغير مسار التاريخ في منطقتنا، ولكن أن تصل الأمور إلى حد المجاهرة والمباهاة بالتعاون العربي الرسمي العسكري مع الكيان إلى حد هذه الوقاحة، فهذا يعني أن النظام العربي الرسمي لم يعد يقيم وزنًا لشعبه ولا لقواه الحية (إن لم تزل حية أصلًا!) فهو لم يُزِل ورقة التوت عن عورته فقط، بل يتباهى بإظهار واستعراض هذه العورة أيضًا!
السؤال الكبير هنا هو، من العدو المشترك الذي يهدد النظام العربي الرسمي والكيان الصهيوني في وقت واحد، حتى يجتمعا معًا في إجراء مناورات وتدريبات لمواجهة هذا العدو؟ الجواب السريع الذي يخطر بالبال هو إيران، ولكن بعد قليل من الصبر والتأمل، يكتشف الحصيف بعيد النظر أن هذا "العدو" المفترض ليس هو المقصود بالاستعداد والتدريب والترقب، صحيح أن هناك تدخلات إيرانية "خشنة" في الشؤون العربية في غير ساحة عربية، ولكن هذا التدخل ليس إيرانيًّا مباشرًا بل عبر تنظيمات "دولاتية" وجماعات عربية تلتقي مصالحها مع إيران، أو تشاركها في عقائدها، ما يعني هنا أن الاستعدادات العربية الرسمية بالتعاون مع العدو هو لمواجهة الشعوب العربية، التي يفترض أنها هي الحاضنة للأنظمة، لا العدو المحتمل، وما يعزز هذا الاستنتاج أن هناك تعاونًا وتنسيقًا أمنيًّا عميقًا جدًّا بين الجهاز الأمني الصهيوني وجل أجهزة الأمن العربية، وأن هناك قنوات اتصال نشطة جدًّا تضمن تدريبات مشتركة وانسيابًا سلسًا في المعلومات ربما في جهتين (بالتأكيد الانسياب العربي باتجاه العدو نشط أكثر، لكون العدو لا يثق حتى بحلفائه فما بالك بعملائه!) والدليل على هذا ما تنشره وسائل إعلام العدو باستمرار عن لقاءات واجتماعات لقادة أجهزة أمنهم مع قادة ومسؤولين أمنيين عرب، ولا أدل على هذا مما نشر في الكيان عن قيام روني بار رئيس الشاباك الجديد بجولة عربية أعلن أنها شملت رام الله والقاهرة وعمان، ولا ندري شيئا عن بقية المحطات التي زارها، والسؤال هنا: من هو العدو المشترك لأجهزة أمن العرب وجهاز أمن الكيان؟ أهي إيران أيضا، أم أن هناك عدوًّا آخر يجب ان يكون تحت العين والرقابة الدائمة؟ سيقال هنا أن هذا العدو هو "الإرهاب" المحتمل الذي يضرب الأنظمة والكيان معا، والحقيقة أن مثل هذا الجواب الجاهز يخفي في داخله معنى آخر، فالخطر المحتمل هنا هو أن تصحو الشعوب، وتنتفض على الظلم الذي يحيق بها، والظلم الأكبر الذي يهدد أمنها وحاضرها ومستقبلها هو الكيان نفسه، ومن يدعمه ويشد على يديه!
اعتقد أن الصورة الآن اتضحت تماما، ولا لبس فيها، فالعدو الذي يجب محاربته من قبل الكيان ومن يتعاون معه هو الشعب العربي في كل بقاع وجوده، سواء في الوطن أو المنفى، ونستذكر هنا حجم الجرائم والاغتيالات التي ارتكبها العدو ضد العلماء والمخترعين العرب في بلاد الدنيا، ونحسب أن هذه الجرائم لم تكن لتقع لو لم يجد عملاء العدو الصهيوني "تعاونا" على هذا النحو أو ذاك من أذرع عربية رسمية، ضالعة في تنسيقها وتعاونها مع جهاز أمن العدو الصهيوني!
نحن اليوم أمام حالة فريدة: خطاب رسمي عربي يملأ منصات الإعلام بقيم "وطنية" و"قومية" تتحدث عن مصلحة العرب ودعم الشعب الفلسطيني(!)، وفعل سري جهنمي يستهدف النيل من كل من يحاول أن يرفع رأسه من العرب لمواجهة العدو الحقيقي، ولا أدل على هذا من العداء الرسمي الوقح لكل ما يمت للمقاومة الفلسطينية بصلة، حتى بلغت هذه الوقاحة حدا بإعلان حركات المقاومة كتنظيمات "إرهابية" واعتقال ليس أعضاءها فقط، بل من يناصرها ويمدها بالمال، فقد غدا هذا "جرما" يستحق العقاب والبطش في بلاد العرب، بل تم تعديل قوانين العرب لتجريم المقاومة والمقاومين، وأصبحت حتى كلمة "مقاومة" مدعاة لعقاب كل من يستعملها، فما بالك بمن يدعمها؟
من الجيد أن يعرف العربي اليوم من عدوه، الظاهر والمستتر، كي يستطيع تشخيص الحال الكارثي الذي تمر به الأمة، حتى لا تنطلي عليه أكاذيب الإعلام والناطقين الرسميين المتشدقين بالوطنية والحرص على الشعوب، والأخطر من هذا كله، ما يسمونه "دعم الشعب الفلسطيني" وهم سبب بلائه والمحرضون والحريصون على ديمومة كارثته ومد الاحتلال بأسباب الحياة!