فلسطين أون لاين

المراسلات.. موروث أدبي تحاول "بائعة البريد" إحياءه

...
بائعة البريد
غزة/ يحيى اليعقوبي:

داخل متجرها في محافظة خان يونس، تفوح من ورق يحمل لون التراب رائحة الذكريات، تأخذ فيه "بائعة البريد" زوار متجرها إلى زمن كان فيه للرسائل الورقية وقع خاص على قلوب الناس حين كانوا ينتظرون قدوم ساعي البريد بلهفة يحمل إليهم مراسلات الأحبة والمغتربين من أقاصي الأرض.

حصلت إيمان أبو ريدة (26 عامًا) قبل أربعة أعوام على الشهادة الجامعية في التمريض، وفي غمرة الصراع بين التخصص والهواية اختارت أن تظل بين الورق تغلف الرسائل وتضفي عليها سمتًا تقليديًا، على حين تملأ الشموع والكتب والبراويز متجرها.

تقول إيمان إنها تسعى لنشر "ثقافة أدبية مهمة لا غنى عنها، وتعزيزها أيضا، فهي ليست مجرد فكرة فقط".

تحاول إيمان إحياء البريد بإدخال مظهر جمالي على المراسلات، مستخدمة الزهور المجففة، وقطعا صغيرة من الخيش، وقصاصات ورقية تغزل حروفها الكلمات بين رد وجواب.. كتبت على إحداها "بعدك على بالي" وعلى اليسار اعتلت قصاصة كتب عليها: "يا بدايات المحبة".

شيء جديد

تشير إيمان إلى وجود إقبال شديد من الناس على الرسائل ترجعه إلى الفضول، فالجيل الجديد لا يعرف ماذا يعني بريد! "الكلمة بحد ذاتها ملفتة، ولا يرونها إلا على صندوق الرسائل الإلكترونية على شاشة الحاسوب أو الهاتف المحمول".

تتوقف مطولاً هنا "تبقى الرسائل هدية ملموسة وتذكارًا يرسل من شخصٍ لآخر، والفكرة في قيمتها، أتدري؛ لا يقتصر الطلب على أهل غزة بل هناك أشخاص من الأردن والداخل المحتل وألمانيا يتواصلون معي لإهداء الرسائل لأحبابهم بتلك المناطق، وأقوم بإرسالها عبر مكاتب البريد، وتبلغ أسعار التوصيل من 50-150 شيقلا، ويحتوي الطرد على مستندات ورقية كالكتب على أن يكون وزنها في حدود 500 غرام فقط (نصف كيلو)".

في الماضي كان هواة البريد والطوابع وصندوق البريد معروفين، ورغم التطور لا يزال الطابع البريدي يستخدم في الدوائر الحكومية والمؤسسات العامة.

وتتابع: "أحاول دائمًا صنع شيء يشبه كل إنسان، كل طرد يصنع بتفاصيل خاصة تشبه أحدهم، لأنه يتحدث معي بتفاصيل تخص شخصه المفضل؛ بأشياء تعنيه ولا تعني غيره"، وهكذا دمجت موهبتها في الكتابة الأدبية، لتغني حروفها داخل قلوب المحبين.

عن معنى التواصل

لكن هل تصمد الرسائل القديمة أمام عصر التكنولوجيا؟ هذا التطور الذي أشغل الناس بالأساس جعلها تتجه للماضي ليكون شيئًا مميزًا، "اخترت الكتابة بالطريقة القديمة لأن وسائل التواصل الاجتماعي حاليا جعلت الناس يعيشون على مبدأ الاختصار، وفي الرسائل يكون الإنسان طلقًا حرًا ومساحة واسعة وزاوية خاصة للكتاب والنقاش وعرض تساؤلاته على الورق دون تردد، حتى لو كانت الرسالة بينه وبين نفسه".

وفي الوقت نفسه تشير إلى أن هذه المواقع ساعدتها في نشر فكرتها والوصول لعدد أكبر من الناس قبل أن تفتح متجرها.

والتحدي لدى إيمان يكمن بإمكانية فهم الإنسان لمعنى التواصل، وألا تقتصر حياته على ما يدور خلف الشاشة والتواصل الرقمي بشكل عام، وأن يعرف الإنسان أنه بحاجة حقيقية للعودة للوراء للرسالة، للزمن الجميل فهي إضافة للكتاب والقراءة وهذه الأشياء المهمة التي لا يستطيع أن يعيش الإنسان حياة حقيقية دون تدوين وقراءة".

أدب المراسلة

وتشير إلى الكتاب والأدباء العرب استخدموا قديمًا المراسلات الأدبية بصورة مستترة عن الآداب الأخرى العامة كالشعر والنثر والقصة، هو أدب مهم لكن نظرا للصراعات آنذاك فكانوا يتواصلوا فيما بينهم، "والكثير من الكتاب كانوا يكتبون ويتبادلون الرسائل بشرط نشر الرسائل بعد وفاتهم وليس في حياتهم، كرسائل غسان كنفاني لغادة السمان التي لم تنشر إلا بعد وفاته، وقد شاركت غادة الأدب منها فقط، وكتاب "أنا الموقع أدناه محمود درويش" والذي كتبه الشاعر الفلسطيني إجابة على تساؤلات صحفية طلب منها ألا تنشر الإجابة والتساؤلات إلا بعد وفاته.

كما تعد الرسائل الأجنبية في قمة العمق، وقد ترجمت الكاتبة الكويتية بثينة العيسى الكثير منها.

وبالنسبة لإيمان "الرسائل تلخص حياة وهي أشبه برواية وقصة والكثير من الأشياء التي لا ننتبه لها ولا نعطي لها بالا".

شغف الكتابة

أما عن حبها للكتابة، فتقول: "أحب الكتابة، كأنك تغزل الحروف، كبرت الهواية معي، كنت أشارك أمي ما أكتبه ثم شاركت الآخرين من زميلات المدرسة والجامعة، كذلك شاركت في المبادرات الثقافية الأدبية التي ساعدتني على تحسين أسلوبي".

لم تخلُ طلبات الرسائل من القصص الجميلة، تحتفظ ذاكرتها بـ "أجملها" لأشخاص عشقوا الماضي فعادوا إلى أعماقه: "أجمل تلك الرسائل، لفتاة من غزة أرادت أن ترسل لخطيبها طردا بريديا في بلجيكا، كنا نتحدث عن التفاصيل، وفي الوقت ذاته أرسل زبون من الخارج يريد أن يرسل لفتاة بغزة طردا بريديا، وقد صنع حسابا عبر "انستغرام" ليتواصل معي لأجل الطرد، لا أعلم ما الذي جعلني أربط أنهما يصنعان لبعضهما طرودا دون أن يعلما وأنا لا أعلم!، لكن عندما انتهيت كان في نهاية الرسائل توقيع كل واحد منهما فاكتشفت ذلك، فحاولت عدم إخبارهما بالأمر، حتى وصل الطرد أولا للفتاة فتفاجأت".