تحدثنا في المقالات الماضية عن 14 وهمًا، واليوم نختم بوهمٍ أخير:
الوهم الخامس عشر: تحرير فلسطين بعيدًا عن الإسلام:
إذا كانت أرض فلسطين أرضًا إسلامية، وشعبها شعبٌ مسلم، وانتماؤها الحضاري والثقافي انتماء إسلاميًا، وحاضنتها الشعبية مسلمة، وبيئتها الإستراتيجية مسلمة، فمن الطبيعي أن تكون هوية مشروع التحرير هوية إسلامية. وأولئك الذين يريدون إبعاد الإسلام عن مشروع التحرير يقعون في وهم كبير، لأنهم يكونون كمن يفصل الروح عن الجسد، وكمن ينزع عناصر الطاقة ومحركات العمل من القوى الفاعلة على الأرض.
وقد يقول قائل إن صفة "عربية" تنطبق أيضًا على ما سبق، فتقول إن هذه الصفة تؤكد مقولتنا، فهذه الصفة ارتبطت بالإسلام فتحًا وانتشارًا ولغة وتعريبًا وحضارة، والفاتحون "العرب" حملوا رسالة الإسلام وانتموا إليها، فاستظلت بظلها الشعوب والقوميات الأخرى، في انفتاح وتفاعل حضاري يستوعب الجميع في أمة واحدة تحت راية الإسلام العظيم. وكانت وما زالت هوية فلسطين العربية جزءًا طبيعيًا منسجمًا ومتناغمًا مع هويتها الإسلامية الأوسع.
طبيعة الأرض:
أرض فلسطين ليست كأي أرض، فهي أرض مقدسة مباركة، وهي أرض الأنبياء وأرض المسجد الأقصى، وأرض الإسراء؛ وهي في قلب العالم الإسلامي وقلب العالم العربي. وهي التي تميزت بأنها أرض الصراع بين الحق والباطل عبر التاريخ، حيث يحسم أهل الحق المعركة لصالحهم في النهاية في كلّ مرة؛ وسيستمر ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولذلك، لم يكن غريبًا أن يجعل الله سبحانه مقام الطائفة المنصورة الثابتة على الحق في هذه الأرض "بيت المقدس وأكناف بيت المقدس". فطبيعة الدور الذي تميزت به هذه الأرض كـ"ساحة جهاد" يقتضي وجود هذه الطائفة في هذا المكان، وأبرز صفاتها أنها "ثابتة على الحق" وأنها "لا يضرها من خذلها ولا من خالفها"؛ وهو ما يقتضي سلامة المنهج وإسلامية المنهج.
ضبط الثوابت والمسارات:
أرض فلسطين التي فتحها عمر رضي الله عنه واكتسبت هويتها الإسلامية منذ أكثر من 1400 عام، ودخل أهلها في دين الله أفواجًا وتعرّبت لغتهم، صارت أرض وقف إسلامي على جميع أجيال المسلمين في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم إلى يوم القيامة. ولا يجوز لأحد كائنًا من كان أن يتنازل عن أي جزء منها مهما كان صغيرًا؛ لأنها ليست للفلسطينيين أو العرب فحسب، بل هي ملك للمسلمين جميعًا.. وعلى المسلمين في كل مكان أن يقدموا أموالهم ودماءهم لتحريرها، بعد أن أصبح ذلك من فروض العين.
وهوية فلسطين الإسلامية تضبط الثوابت، كما تضبط البوصلة والمسارات؛ وتضبط أسقف ومساحات العمل الوطني، ومجالات المناورة والبرامج المرحلية؛ فلا مجال للعبث بالحق الكامل في فلسطين الكاملة من نهرها إلى بحرها، ولا مجال للاعتراف للمحتلين الغاصبين بأي شرعية أو حقّ لهم على أي جزء من فلسطين.
القضية المركزية للأمة:
وعندما يتعلق الأمر بقضايا التَّحرر والصراع مع أعداء الأمة والاستعمار، فإن قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة الإسلامية؛ ليس فقط لمكانتها الدينية والإستراتيجية، وإنما أيضًا لكون المشروع الصهيوني مشروعًا عالميًّا عدوانيًّا، مدعومًا بقوى كبرى غربية إمبريالية، ويتَّخذ من فلسطين قاعدة لإضعاف الأمة وتمزيقها ومنع نهضتها. ومن ثم تكون فلسطين والقدس والأقصى القضية الجامعة للأمة، والموحدة لبوصلتها ضدَّ عدوها المركزي المشترك، وتكون الرافعة لنهضة الأمة وقوتها، لأن تحرير فلسطين لا يتم دون ذلك، كما أنها الفاضحة الخافضة لمن يخذلها ويتخلى عنها.
لقد كان حصر قضية فلسطين في الإطار القومي العربي ثم في الإطار الفلسطيني، ثم في فصيل فلسطيني وقيادة متنفذة في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية؛ أحد أبرز الكوارث في التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر. ولذلك، فإن جانبًا أساسيًا في إدارة الصراع مع العدو أن تسترجع القضية جوهرها الإسلامي، إلى جانب أبعادها الوطنية والعربية والإنسانية، بشكل متناغم فعَّال.
خطوط عمل متوازية:
إنّ الحديث عن توسيع دائرة الصراع مع العدو إلى الدائرة الإسلامية لا يعني انتظارًا لقيام الخلافة أو لتحقيق الوحدة الإسلامية، أو تضييعًا وتمييعًا للمسؤولية تجاه فلسطين؛ لأن العمل لفلسطين والعمل للنهضة والوحدة الإسلامية هما عملان متوازيان متكاملان، يمكن أن يسيرا جنبًا إلى جنب، ويكون أحدهما رافعة للآخر، دون أن ينتظر أحدهما الآخر أو يُعطّله. غير أن استعادة الصراع مع العدو هويته الإسلامية شرط أساس في شعور أبناء الأمة بالمسؤولية وقيامهم بالواجب، دونما مَنّ أو أذى من أي مسلم؛ وفي المقابل دونما حواجز "قُطرية وطنجية" من أي فلسطيني يريد أن يستفرد بفلسطين ومصيرها على هواه؛ ويتعامل مع الآخرين وفق حاجته، أو كضيوف أو كمجموعات خدمات. فالمسلمون جزء حيوي من الجسد المقاوِم والمُحرِّر، والفلسطينيون هم أبناء الثغر وأهل الرباط، والأثقل في المسؤولية وأداء الواجب، وهم رأس الرمح وهم الصف الأول.
الإسلام هو الأقدر على حشد الجماهير:
إن الإسلام هو الأقدر على حشد الجماهير وتعبئتها وتفجير طاقاتها، وتقديمها للتضحيات. وإن انسجام الفلسطيني (والعربي والمسلم) مع نفسه وعقيدته وثقافته وتراثه، مكوّنٌ أساس في استنهاض الهمم والتضحية بالروح والمال. فهو عندما يؤمن أن النصر من عند الله، وأن الله تكفل بالنصر لعباده الصادقين، وأن فلسطين بقدسيتها وبركتها وأقصاها ومسراها جزء من دينه، وأنه مؤتمن عليها باعتبارها وقفًا للأمة ولأجيال المسلمين، وأن صموده ومعاناته تتحول إلى أجر وحسنات، وأن انتصاره عز للأمة وكرامتها، وأن استشهاده يرفعه إلى الفردوس الأعلى... فعند ذلك لن تجد أيديولوجية لها من الطاقة والحيوية ما لهذا الإسلام العظيم من قدرة وتأثير.
رصيد التجربة التاريخية:
ولذلك، فإن التجربة التاريخية أثبتت أن تحرير فلسطين ارتبط بالإسلام، منذ الفتح العمري مرورًا بالحروب الصليبية ومواجهة التتار إلى وقتنا المعاصر.
لقد فشلت الأيديولوجيات المختلفة التي هيمنت على البيئة العربية والفلسطينية في تاريخنا الحديث، سواء كانت يسارية أم قومية أم قُطرية منغلقة، في أن تقود مشروعًا حقيقيًا للتحرير؛ وما زلنا ندفع أثمان مُرَّة للهيمنة الرسمية لهذه الأيديولوجيات.
وبالرغم من أنَّ الاتجاه الإسلامي حُورب بشراسة في المنطقة، وحُرم من وسائل النهضة والتمكين، خصوصًا في البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين، فإن الإسلام ظلّ المُحرِّض الرئيس (أو محرضًا رئيسًا على الأقل) في ثورات الشعب الفلسطيني ومقاومته وانتفاضاته طوال المائة عام الماضية، بدءًا من انتفاضة القدس 1920، مرورًا بهبَّة البراق 1929، وثورة القسام 1935، والثورة الكبرى 1936-1939، ومنظمة الجهاد المقدس، وحرب 1948، والمقاومة في النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين، ومعسكرات الشيوخ 1968-1970.. وصولًا إلى الجهاد الإسلامي وحماس، والانتفاضة المباركة 1987-1993، وانتفاضة الأقصى 2000-2005، وحروب غزة.. وغيرها. ومنذ أكثر من عقدين، فإن المقاومة الإسلامية الفلسطينية تمثل العمود الفقري لقوى المقاومة المسلحة في فلسطين.
لا تعارض مع الأبعاد الوطنية والعربية:
ولا تتناقض الرؤية الإسلامية للتحرير مع الأبعاد الوطنية والقومية العربية؛ فالمسلمون أشد إخلاصًا لأوطانهم، فهم مع وطنية الحب والشوق والحنين للأرض، ومع وطنية العزة والكرامة والتحرير، ومع وطنية المجتمع القائم على التعاون والتكافل والتراحم. وفوق ذلك، فإن الحفاظ على الأرض وبذل الدماء والأموال في سبيل تحريرها من الأعداء جزء من عقيدتهم ودينهم.
ولا ينبغي أن يكون ثمة تعارض بين الدائرة العربية والدائرة الإسلامية، فالعرب هم مادة الإسلام، وهم في واقعهم المعاصر وبأغلبيتهم الساحقة مسلمون (بنحو 95 في المائة). وأكثر ما يجمع العرب هو دينهم، ولغتهم التي حفظها القرآن وتراثنا الإسلامي. ومشاريع الوحدة العربية يمكن أن ينظر لها بإيجابية باعتبارها خطوة باتجاه الوحدة الإسلامية، ما دامت تعبّر عن إرادة الشعوب، ومنفتحة لا تقوم على العصبيات والعقليات الإقصائية، ولا على دكتاتورية الأقليات أو الانقلابات العسكرية.
ولذلك، فإن دوائر العمل لفلسطين، سواء كانت وطنية أم عربية أم إسلامية أم إنسانية، هي دوائر متكاملة؛ وينبغي أن يتم تفعيل عناصرها الإيجابية في مشاريع النهضة والتحرير.
مشروع نهضوي مستوعب للأقليات:
كثيرًا ما يثير دعاة الأيديولوجيات الأخرى، ورافضو الرؤية الإسلامية، مسألة الأقليات؛ وأن رفع الراية الإسلامية يستثنيها.
وابتداءً، فإن الحل الإسلامي ليس حلًا طائفيًا ولا عنصريًا ولا انعزاليًا. وهو لا يعني ظلمًا أو تهميشًا للأقليات، ولا يعني إكراهًا في الدّين؛ بل هو مشروع حضاري نهضوي يتسم بالانفتاح والمرونة، واستيعاب كافة الشرائح والقوى الساعية للإسهام في مشروع التحرير، والتي ستأخذ مواقعها بحسب إخلاصها وكفاءتها.
وثانيًا، فما دام الإسلام هو الجامع الأساس للشعب الفلسطيني وللعرب وشعوب الأمة التي تزيد عن مليار و800 مليون، وهو القاسم المشترك الأكبر بين الجميع؛ فلماذا يتم استبعاده لصالح أيديولوجيات لا تجمع أنصاف أو أرباع أو أعشار ما يجمعه الإسلام؟!
وباستخدام القياس ذاته، لماذا (وفق المنظور القومي) يتم تجاوز أبناء القوميات الأخرى في المنطقة العربية كالأكراد والأمازيغ والأفارقة والتركمان، وكلهم مسلمون (ولسانهم عربي)، ونسبتهم أعلى من نسبة أبناء الطوائف والأقليات الأخرى؟
وثالثًا، لماذا يتم الاستغناء عن أكبر قوة دافعة ومحرضة ومُوحّدة للتحرير؛ لصالح أيديولوجيات فشلت في أن تستخرج هذا المخزون الهائل من الطاقة والحيوية في الأمة على مدى السبعين عامًا الماضية؟
وحتى من ناحية براجماتية عملية، فمن المفترض على المخالفين في الأيديولوجيا أو المختلفين في الدّين، أن يفسحوا المجال للإسلام ورجاله، ما دام ذلك يصب بشكل أفضل في مشروع التحرير.
ثم إن مسيحيي فلسطين (منذ العهدة العُمرية) ومسيحيي الشرق، من ناحية رابعة، اندمجوا في الحضارة الإسلامية وشاركوا في بنائها، وعاشوا أجواء الحرية والتسامح على مدى التاريخ الإسلامي. وأسهموا بقوة في مواجهة الحركة الصهيونية بالكلمة والقلم والبندقية، وعملوا دونما حساسية تحت قيادة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، وقاتلوا ضمن تشكيلات "الجهاد المقدس" بقيادة عبد القادر الحسيني. وكانوا وما يزالون جزءًا أساسيًا من الحركة الوطنية الفلسطينية، وانتخب الكثير منهم حركة حماس لأنها أصدق في التعبير عن تطلعاته وفي مواجهة الاحتلال.
ومن ناحية خامسة، فلا ينبغي الاستشهاد بما استجد على الساحة الإسلامية من اتجاهات وتنظيمات متعصبة للمطالبة باستبعاد الاتجاه الإسلامي؛ لأن الاتجاه العام الساحق في فلسطين والعالم الإسلامي هو اتجاه معتدل متسامح منفتح؛ ولأن الأديان والأيديولوجيات الأخرى فيها من المتعصبين والمتطرفين مثلما يوجد في الحالة الإسلامية أو يزيد، ولا عبرة بالاستثناءات والحالات الشاذة.
تحقيق لوعد الله بالنصر:
من جهة أخرى، فإن تحرير فلسطين مرتبط في الرؤية الإسلامية باستكمال شروط النصر والتمكين، من: حسنِ صلةٍ بالله، وإعداد عناصر القوة "عبادًا لنا أولي بأس شديد"؛ والنهوض الحضاري، والمشروع الوحدوي خصوصًا في البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين، والقيادة المؤمنة الصادقة، والجاهزية للتضحية والعطاء، وتثبيت أهل فلسطين في أرضهم ودعم صمودهم، والبنى المؤسسية الفعّالة، والقدرة على استيعاب الجميع في مشروع الوحدة والعودة والتحرير.
ويأتي ضمن هذه الرؤية تحقيق لوعد الله بالنصر والتحرير كما جاء في فواتح سورة الإسراء، وكما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأخيرًا، فلا ينبغي لأبناء التيار الإسلامي، وخصوصًا من أبناء فلسطين، أن يترددوا أو يتلجلجوا أو يخجلوا من طرح رؤيتهم الإسلامية بقوة، وأن يقوموا بتنزيل هذه الرؤية على "المشروع الوطني الفلسطيني". وإن الكلام في الشراكة الوطنية لا يعفيهم من طرح تصوراتهم المستندة إلى هويتهم ورسالتهم؛ كما لا ينبغي أن تضيع هويتهم في "مرقة" الكلام عن الوحدة الوطنية (الحفاظ على الكليشيهات، والضياع في التفاصيل). وعليهم أن يُقدِّموا رؤيتهم كرافعة للعمل الفلسطيني، وكمخرج من الأزمة التي تعانيها الأيديولوجيات والمسارات الأخرى، وأن يُقدِّموا خريطة طريق لمشروعهم الإسلامي النهضوي في الوحدة والعودة والتحرير.