التسميات الفخمة في الحالة الفلسطينية تقاذفتها لعبة طريفة، بُعيْد تأسيس السلطة الفلسطينية، وهو أمر لم يُقِم له الناس كبير وزن. فوزراء السلطة الفلسطينية ظلّت "إسرائيل"، لفترة من الزمن، تصرّ على تسميتهم بمسؤولي الملفات (مسؤول ملف الصحة مثلا.. وهكذا)، فيما يبدو تمسّكا شكليّا باتفاقية أوسلو، في حين أنّها حوّرت هذه الاتفاقية جوهريّا بما أفقد السلطة أيّ حَدٍّ مُلاحظ من الاستقلالية (إعادة اجتياح مناطق "أ" مثلا، وتأبيد السلطة بلا أفق سياسي.. وهكذا). وفي المقابل، حصّلت السلطة العديد من الإنجازات الشكلية، لم يكن أهمها لقب الوزير، فرئيس السلطة يفترض أنه رئيس المجلس التشريعي حسب الاتفاقية، وهكذا صار لدى الفلسطينيين رئيس للسلطة وآخر للمجلس التشريعي، وزيد في أعضاء هذا المجلس، واستحدث منصب رئيس الحكومة. وللسلطة أن تسمي نفسها في مراسلاتها وتعاملاتها الداخلية "دولة"، ولها أن ترجع إلى وصف نفسها بالسلطة الفلسطينية في مراسلاتها مع الاحتلال، وهكذا؛ تشرح لنا لعبة التسميات والحقائق، ما يجري في العمق.
ما يُلاحظه الناس، الحقائق الاستعمارية التي يكرّسها الاحتلال يوما خلف الآخر، بينما أخذوا يتندّرون منذ البداية على التسميات الفخمة، التي لا تتناسب مع حقيقة الخضوع للواقع الاستعماري، (مثلا أطلقوا، من اللحظة الأولى من عمر السلطة، نكتة تقول: إننا بلد المليون عقيد). ثمة الكثير لقوله مما يختبئ أسفل هذه النكتة النافرة، إلا أنّها لا تكفي لنفي التحوّلات الاجتماعية، التي من صورها هذه التسميات التي تكلّف الميزانية العامّة الكثير، على حساب ما يُفترَض أنه حاضر خلف التسميات، كالصحة والتعليم ومنظومة العدالة.
وهكذا كانت الشكليات في الصراع مع الاحتلال تتحوّل إلى حقائق اجتماعية في الداخل الفلسطيني، بما يزيح من داخله قيما ويُحلّ مكانها أخرى، وبما ينعكس في إرادة الصراع، ويوجِد مُثلا ورموزا جديدة للمعنى والحضور. فالتسميات باتت تعني الجاه والثراء، أو الدخل المرتفع في مقابل متوسط كسيح يئنّ تحت ثقل غلاء المعيشة، وحينئذ علينا أن نتوقع أشياء كثيرة غير النضال، ومعاكِسة له، في هذا الواقع.
لما فازت حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006، وشكّلت حكومتها التي سميت الحكومة العاشرة، حرصت بدورها، في إعلامها، على التأكيد على هذه التسميات والألقاب. فالحركة تريد التأكيد على منجزها الانتخابي، في مواجهة حملات ومشاريع الإسقاط والحصار والإفشال. لم تطمِس أيضا هذه الدوافع المفارقاتِ النافرة، حينما تبرز الألقاب في غير موضعها، ويترتب عليها تباين طبقيّ، يمسّ في عمق دوافع النضال، والقدرة على تأطير الجماهير التي تُلاحِظ التباين والاختلاف بين الرئيس والمرؤوس.
بيد أن حماس لم تُمهَل، وأودع وزراؤها ونوابها من القدس والضفّة الغربية السجون، كما سحب الاحتلال الهويات المقدسية من نوابها ووزرائها المقدسيين، وأبعدهم عن المدينة المقدسة، وأخيرا أوقفت السلطة الفلسطينية دفع رواتب نواب حماس من القدس والضفّة الغربية، بعد حلّ المجلس التشريعي. وهكذا اكتملت الحقيقة التي تشهد باستحالة هذا الجمع السوريالي بين المقاومة وبين السلطة المحكومة بالاحتلال، بين متطلبات النضال وأكلافه وأثمانه وبين متطلبات سلطة ينبني عليها تفاوت طبقيّ يشلّ دوافع النضال عند الناس.
عادت هذه الحقيقة للتأكيد على اكتمالها، بخروج عشرات آلآلاف الذين زحفوا من جميع مناطق الضفّة الغربية إلى مدينة جنين، لتشييع الوزير الفلسطيني السابق وصفي قبها، الذي كان وزير الأسرى في حكومة حماس، الموسومة بالعاشرة، ووزير دولة في حكومة الوحدة الوطنية، قصيرة العمر، والتي جمعت حماس وفتح قبل الانقسام الفلسطيني.
الجماهير الغفيرة التي أظهرت محبة فائضة، وكشفت عن شعور عارم بالواجب تجاه هذا الرجل، لم تكن تزحف لتشييعه وتهتف له وهي تحمل نعشه لأنّه كان وزيرًا سابقًا، خلّف ما يمكن التزلف له من إرث الجاه والسلطة، بل العكس هو الصحيح تماما، فالاقتراب من الرجل في حياته، ومن نعشه بعد مماته، قد يكون سببا للخسائر.
سوى الاعتقالات الكثيرة، التي بلغت 14 عاما، تعرّض وصفي قبها، منذ عام 2006، إلى العديد من هجمات الإيذاء والتخويف، والاعتداءات التي ترقى طبيعتها إلى محاولات الاغتيال أو الإقعاد، لحمل الرجل على كتم صوته، وشلّ حركته عن المساهمة الدؤوبة في الفعاليات الوطنية، وتمثيل حركته السياسية (حماس)، بحضوره الدائم في الساحة والميدان، وصوته الجريء في كل منبر أمكنه وصوله.
كانت الجماهير تزحف لتشييع الرجل الذي يشبهها، الرجل الذي رسخ في الميدان ولم يفارقه، ولم يتلبّس بأيّ مظهر طبقيّ مخالف لعامّة الناس، ودفع ثمن مشاركته في الحكومة التي شكلتها حماس، من أمنه واستقراره ورزقه. وبالرغم من ذلك ظلّ على طريقه، بلا تغيير يُذكر، فإذا كانت الوزارة عابرة طارئة لم تغيّره لذلك، فإنّ أثمانها الفادحة لم تغيّره، لا بأنّه ظلّ على موقفه النظريّ فحسب، ولكن بأنّه ضاعف من حضوره العمليّ، وقد كان يمكنه أصلا أن يسلك طريقا آمنا يتدرّع فيه بشهادته في الهندسة التي حصّلها من جامعة "ديترويت" في الولايات المتحدة الأمريكية، عام 1984.
يجمع وصفي قبها بين كونه الرجل الذي بقي على حاله كالناس، منهم وإليهم، يشبههم ولا يختلف عنهم، وبين كونه الرجل الذي لم يتعب، ولم يتراجع عن القيام بدوره النضالي، داخل ميدان المواجهة، وعلى الأرض، منحازا لأيّ فعل مهما صغر حجمه، وقلّ عدد الفاعلين فيه، ولو كان وحده يحمل يافطة ويعتصم في الشارع. وهذه سمة قلّت في الناس، فكيف برجل قياديّ وكان وزيرا سابقا؟ لا يحتاج القائد الذي يريد حشد الناس لأكثر من أن تجتمع فيه هذه الصفات.