انتشر في اليومين الأخيرين على مواقع التواصل فيديو لطلاب، من خريجي إحدى كليات الصّيْدلة المصرية خلال رحلة في دهب، يرقصون وينشدون «أنا دمي فلسطيني» وذلك بعدما استفزهم وجود إسرائيليين على ظهر المركب، الذي كانوا عليه، وهو تعبير عفوي عن الرفض الشعبي المصري للتطبيع مع الإسرائيليين، الأمر الذي حدا بالإسرائيليين إلى مغادرة القارب.
لا يحتاج الأمر إلى أبحاث كثيرة للتأكيد على اختلاط الدم المصري بالفلسطيني ليس مجازًا، بل هو حقيقة عبر التاريخ القديم والحديث، وذلك بفعل حملات عسكرية من مصر إلى بلاد الشام، أو مشتركة بين الشام ومصر في مواجهة حملات أجنبية، أو الهجرة بسبب ظلم واضطهاد وتهرُّب من دفع الضرائب الباهظة، أو بهدف التوطين لأهداف سياسية وعسكرية، مثل نقل إبراهيم باشا في القرن التاسع عشر لـ140 ألف مصري لتوطينهم في بلاد الشام، وهرب واسع إلى فلسطين من أعمال السُّخرة في حفر قناة السويس منذ 1860، ولهذا توجد قرى في فلسطين سكانها من أصل مصري مثل كفر مصر -وقسم كبير من أهالي جسر الزرقاء على الساحل جنوبي حيفا، وعائلات كثيرة خصوصا في منطقة المثلث وقطاع غزة، مثل مصاروة، المصري، الباز، فودة، الرِّيس، بيومي، القريناوي، البسيوني -النونو -البيبي -عاشور -فروخ -الجيّار -أبو خضرة -أبو رحمة -الأسطل، البلبيسيي، الفيومي، البلتاجي، وأسماء كثيرة أخرى، إضافة إلى عشائر النقب الممتدة بين مصر وفلسطين وشرق الأردن.
هذا يعني أن دماء الشعبين مختلطة بالفعل، وليس مجازًا. أما الأسباب التي تحول دون التطبيع بين الشعب المصري والشعب الإسرائيلي، فهو تنامي الشُّعور بالظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون، أو عودة الوعي إلى الواقع، ورفض الحياد اللاأخلاقي بين المجرم والضحية، وبين المحتل والواقع تحت الاحتلال الذي تدينه الشرائع الدولية. يختزن الشعب المصري ذكريات أليمة ما زالت تعيشها أجيال لم ترحل بعد، عن العدوان الإسرائيلي على مصر وشعبها، فبين حين وآخر تُنشر حقائق رهيبة عن الوحشية والهمجية، التي تعاملت فيها (إسرائيل) مع الأسرى المصريين، من جنود ومدنيين، خلال حروبها العدوانية، حيث كان الهدف القتل لأجل القتل فقط وبطرق سادِية، بعيدًا عن أي مشاعر إنسانية، باعترافات من ضباط وجنود إسرائيليين. الجمهور الإسرائيلي في غالبيته العظمى يتبنى أيديولوجيات يمينية متطرفة، تحتقر العرب، وتنظر إليهم بتعالٍ وعنصرية، وسُفور هذه الغطرسة من خلال الاعتداءات على أقدس المدن لدى المسلمين بعد مكة والمدينة، وتغيير معالمها، من خلال الطرد السكاني والهدم وتجريف المقابر وغيرها. تقف النقابات المصرية سدًّا منيعًا أمام التطبيع الشعبي مع دولة الاحتلال، ويلعب المثقفون والفنانون المصريون وجماهير الرياضة والمحامون، موقفًا حازمًا من هذه القضية، فأكثريتهم الساحقة ترى في (إسرائيل) دولة مارقة معتدية، وباتوا يدركون أن اتفاقيات السَّلام بين مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية والهرولة إلى التطبيع، لم تؤدِ إلى سلام، بل إلى المزيد من الهمجية والعدوانية، والإمعان في اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، إضافة للاعتداءات على دول وشعوب عربية أخرى، ودعم (إسرائيل) للمستبدِّين الحاكمين فيها.
لعبَ التطوّر الهائل في وسائل التواصل، بالصوت والصورة دورًا مهمًِّا جدًا في فضح ممارسات الاحتلال الإجرامية، فلم يعد سهلًا إخفاء ما يجري على أرض الواقع، ويظهر بوضوح حقيقة الاحتلال وأهدافه الإجرامية. انفضاح كذب وسخافة مقدمي البرامج، الذين كانوا يشتمون الفلسطينيين ويحرِّضون ضدهم، ويتهمونهم في بيع بلادهم، فالفلسطيني يُطرد من أرضه وبيته، ويُسرق محصوله الزراعي أو يُتلف ويتعرض هو نفسه لخطر الموت على يد المحتلين في البث الحي والمباشر.
موقف الشعب الفلسطيني المقاوم نفسه، فمن يتمسك بحقه، لا بد أن يجد تضامنًا وآذانًا مصغية من أبناء أمَّته وأحرار العالم. لقد صارت تعرف الشعوب العربية أن شعب فلسطين يدافع ليس فقط عن نفسه، بل يدافع عن مقدسات الأمة. الانحياز الأمريكي والغربي عمومًا لدولة الاحتلال على حساب الشعب الفلسطيني من منطلقات وحسابات معادية للأمة كلها، وليس للفلسطينيين فقط. لدى الشعب المصري شعور بأنه الأخ الأكبر للفلسطينيين، ومن واجبه تحمُّل المسؤولية الأخلاقية والتاريخية تجاههم في شتى الصور والميادين. لن يكون تطبيع بين الشعوب العربية والاحتلال الذي يتغوَّل إلى درجة مُذلَّة ومستفزة لكل من يحمل في جسده دمًا عربيًّا أو دم إنسان.
ما يعبِّرُ عنه شعب مصر، ينطبق على بقية الشعوب العربية، التي تحمل مشاعر المحبة والتقدير نفسها لشعب فلسطين المقاوم والصامد في وطنه، ومشاعر البغضاء والغضب نفسها تجاه المحتلين المجرمين والمتواطئين معهم.