الخامس والعشرون من تشرين الثاني 2016م، بدا كل شيء يوم الجمعة على ما يرام في عائلة زيدان، " محمد .. تعال" ينادي الأب ( نبيل زيدان 38 عاما) على ابنه محمد.." شو رأيك تروح على السوق تشتري طواقي (قبعات)".. كان البرد يومها يغزو الأجساد بمدينة القدس، وعلى الفور كعادته استجاب محمد لطلب والده " اه .. بجيب "، وذهب إلى السوق المعروف باسم " شروتنا " بمخيم شعفاط بالقدس.

أحضر محمد ( 14 عاما) خمس قبعات كما طلب والده لكنها لم تعجبه، إلا أن نجله لم يرغب بالعودة للسوق .." خلص بآخد طاقيتين للمدرسة"، بعدها ذهب إلى غرفته للعب مع اخوته، أما والده ففضل أخذ غفوة للراحة.

حينما حل المغرب واقترب الليل من اسدال ستاره، وهو الوقت المفضل الذي تجتمع فيه العائلة بعد أداء صلاتها، أراد محمد النزول للحي فذهب لوالدته؛ وقال "بدي أشتري من الدكانة .. كمان بدي أنزل ألقي القمامة بالحاوية "، أخذ منها سبعة شواكل وغادر البيت.

خمس وأربعون دقيقة مرت على خروج محمد من البيت، الأب يتصفح حسابه على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي " فيسبوك " لمطالعة آخر الأخبار، وعلى الفور كان العنوان الأبرز على كافة الصفحات الإخبارية خبرا بعنوان " استشهاد شاب على حاجز مخيم شعفاط بداعي محاولة تنفيذ عملية طعن "، ثم سارع إلى مناداة زوجته ..

- اسمعي؛ تطلعيش الأولاد في شهيد..

لكن ضربات قلبه زادت نبضا من ردها ..

- محمد إله ساعة إلا ربع نازل

تسلل الخوف إلى قلبه، فهو عادة يمنع أولاده من النزول وحدهم لأكثر من عشر دقائق بسبب ظروف مخيم شعفاط وخوفا عليهم، أرسل ابنه الأصغر من محمد ليسأل عنه في الحي، وعلى الفور عاد يحمل بعض التفاصيل لوالده " بقولوا في شاب صغير مستشهد "، في هذه اللحظة بدأ الشك يساوره بأن يكون ذلك الشهيد هو محمد؛ ارتدى والد محمد ثيابه ومن فوره اتجه نحو الحاجز الإسرائيلي في مخيم شعفاط.

حاجز الموت

عندما وصل كان الحاجز مغلقاً، أشهر الجنود الإسرائيليون أسلحتهم عليه من مسافة ستين مترا، لم يملك أبو راسم والد محمد سوى العودة لمنزله وهو منشغل البال قلق الشعور يردد: "يا رب ما يكون محمد ".

بعد ساعتين من الاحتمالات والقلق واضطراب القلب سمع أن الاحتلال قام بفتح الحاجز، غادر المنزل وحينما وصل الحاجز دخل على جنود الاحتلال بكل جرأة فلم يعد يحتمل ..

- بدي أقابل الضابط المسؤول..

- لماذا ؟..

- ابني اله ساعتين طالع من الدار يمكن هو الشاب اللي قتلتوه على الحاجز!

تحدث الجنود مع الضابط الإسرائيلي المسؤول عن الحاجز، فجاء واستفسر عن اسم والد محمد واطلع على وثيقته الشخصية، وتأكد أنه والده فقال له "بدي أورجيك صورة الآن "، أخرج الضابط هاتفه المحمول وأظهر الصورة لفتى صغير ممدد على الأرض .

وبمجرد أن شاهد الصورة تأكد والده بأنه هو .. كانت شفتاه ترتجفان بينما دموع الحرقة تنتحب قائلاً: حسبنا الله ونعم الوكيل فيكم قتلتوه"؛ حينها بدأ الضابط الإسرائيلي بنسج رواية خيالية بأن ابنه لاحق مجندة بسكين وهربت منه وقاموا بإطلاق الرصاص عليه.

أبو راسم واثقٌ أنها رواية غير حقيقية .. " مستحيل طفل عمره 14 سنة يعمل هيك"، ثم كشف حقيقة مرض ابنه لذلك الضابط "محمد مصاب بفشل كلوي بنسبة 100% وهو مريض لا يمكن أن يقوم بذلك".

كلية واحدة

الخميس، قبل يوم الاستشهاد مر طبيعيا وهادئا على عائلة زيدان، عاد محمد مع اخوته ووالدهم الذي يعمل حارسا لمدرسة الفرقان التي يدرس فيها أبناؤه، وساد اللعب والمرح ذلك اليوم ولعب محمد مع أخويه الصغيرين حينما عاد من مدرسته، حتى المساء.

ولد محمد بكلية واحدة وعاش بشكل طبيعي على هذه الحالة ولكن عام 2011، بدأت الكلية تتأثر وظهرت علامات المرض عليه، حتى وصلت نسبة الكرياتين إلى الدرجة الثالثة، وكان الأطباء يتوقعون خلال العام القادم أن يبدأ بعملية غسيل كلوي.

الشهيد الفتى بالنسبة لوالده فتى محبوب، يحب الحديث وإسعاد الآخرين ممن حوله، فرغم مرضه وكثرة المراجعات الطبية، إلا أنه كان متفوقا لا يقل معدله عن 94% ولديه طموح وأحلام بأن يكمل تعليمه.

سأله والده ذات مرة "ايش رأيك تصير دكتور؟" ضحك ورد عليه: " لا يابا؛ ما بدي " لعله رفض الفكرة بسبب صعوبة ما مر به.

"أتدرون؟.. يواصل أبو راسم روايته لصحيفة "فلسطين": كان محمد يوميا يقوم بعمل قسطرة بولية بواسطة أنبوب بنفسه في المنزل .. هذا شيء مؤلم ولكنه كان يرفع معنوياتي بذلك رغم حزني عليه"، فكان لدى محمد مشكلة بالبول أيضا.

بنبرة صوت حزينة مرت صفات نجله في حديثه" محمد طفل يحب اللعب والمرح والضحك، لكن ماذا نفعل؟ هذا قدرنا، الأطفال يعامَلون كذلك في دول العالم حتى سن 18 عاما، إلا عند الاحتلال الذي يعامل أطفالنا مثل الكبار".

ما زال يتوقف عند هول ما جرى "هذا واقعنا ويجب أن نعيشه، الله لا يرضى بالظلم، نحزن من جانب على فقدان الأحبة، ونفرح لاقتراب زوال الاحتلال بسبب ظلمه".

من أعماق الجرح، يسحبه الحديث إلى أول مرة نام فيها محمد بالمستشفى لمدة 40 يوما متقطعات خلال فترة شهرين، حينها دهش من استقبال نجله المرض بالضحك واللعب كعادته.

الطالب المتفوق

" لا أنساه؛ .. كان محمد مبدعا بالرياضيات وذكيا فيها" بحسرة الفراق يستذكر حينما شارك نجله في مسابقة بالرياضيات على مستوى الضفة الغربية وحصل على المركز الثالث.

يتوقف عند تلك اللحظة: "كنت فخورا به عندما كرم أمام آلاف الحاضرين من مختلف مدارس الضفة".

فبعد أن كرم محمد من اللجنة المنظمة ونزل من المنصة ضحك في وجه والده .. "أنا مبسوط " ابتسم والده مداعبا له.. " كان جبت الأول"، ثم عبر له عن فخره به وتقديره له على هذه النتيجة التي حصل عليها فلذة كبده.

" ما شاء الله عنه محمد يحب المساعدة ووضع يده بكل شيء في المدرسة" .. هذه المرة الكلام لمديرة مدرسة الفرقان حينما كان محمد بالمرحلة الابتدائية، كذلك لا يفر من حديثه ما قاله أساتذة محمد طوال مراحله الدراسية بالإشادة بتفوقه وكيف كانوا يختارونه في الإنشاد والإذاعة المدرسية.

وبهذا نختم قصة الشهيد الفتى محمد زيدان (14 عاما) وهو طالب بالصف التاسع بمدرسة الفرقان الإعدادية بالقدس، أعدمه جنود الاحتلال الإسرائيلي على مدخل مخيم شعفاط بمدينة القدس، وما زال جثمانه محتجزا وترفض سلطات الاحتلال تسليمه لعائلته لمواراته الثرى.

ولدى نبيل زيدان خمسة أولاد أكبرهم راسم 16 عاما، والشهيد محمد، وعبد الحكيم 11 عاما، وتقى والمعتصم بالله (أقل من خمس سنوات).