تلزمنا مساحات كثيرة للحديث عن وجوه التناقض في السياسات العربية، على صعيدي العلاقات بين بين الدول، والمواقف من القضايا العربية المختلفة وطرق إدارتها، غير أن تجليات الأزمة المتصاعدة بين دول الخليج ولبنان على خلفية تصريحات الوزير اللبناني جورج قرداحي تمثل تطبيقًا عمليًا للتناقض الفج وغير المبرر في إدارة هذه السياسات، وفي صناعة أزمات كبيرة من أحداث ومواقف صغيرة وتافهة.
بطبيعة الحال فإن صناعة الأزمات وتضخيمها فن يتقنه النظام الرسمي العربي بمختلف محاوره أيما إتقان، وأدواته في ذلك وسائل إعلامه الموجهة ومنصات التواصل الاجتماعي التي ينشط عليها الجمهور العربي بذبابه وعقلائه، وينخرطون في كل الحملات المصنوعة والمختلقة والموجهة، بغضّ النظر عن أهدافها.
بعيدًا عن تصريحات قرداحي وما تحمله في ذاتها من مغالطات أو حقائق، ومن مواقف متطرفة أو معتدلة، ومن تناقضات حول كثير من الوقائع العربية، التي تجعله في صف بعض المستبدين والسفاحين من الحكام كالأسد والسيسي، ومعاديًا لآخرين بحجة اعتداءاتهم على اليمن، بعيدًا عن كل هذا، فإن الاستغلال البائس لها من أنظمة السعودية والإمارات والبحرين يكشف عن حجم السخف والتيه في المشهد العربي، حيث الاستقواء على العناصر الضعيفة في أية معادلة لتصفية حسابات كبيرة، مع العناصر الأقوى، حتى وهذه الأنظمة تفتح بابًا للتسوية مع هذه العناصر كإيران وسوريا.
ما يظهر من الأزمة الأخيرة هو استغلال التصريحات لقطع العلاقات مع لبنان ووقف المساعدات المالية له أملاُ في إضعاف المحور الذي يتزعمه حزب الله، أو احتجاجًا على غياب العناصر الموالية للسعودية من تشكيلة الحكومة الجديدة في لبنان، رغم أن هذه ليست المرة الأولى التي يهاجم فيها مسؤول لبناني السعودية والإمارات ويعلّق على سياساتها منتقدا، ورغم أن قرداحي أدلى بتصريحاته تلك قبل أن يُعين وزيرا.
لكنّ هذا ليس كل شيء، فثمة سياسة تقليدية مستمرة ينتهجها النظام الرسمي العربي تتمثل في إلهاء الشعوب العربية في قضايا نزاع بينية تغذي نزعات العنصرية القُطرية، لصرف الشعوب عن التنبه لقضاياها الأساسية، سواء أكانت داخلية وتتعلق بفساد أنظمتها وقمعها وتخلّفها، أو خارجية كالقضية الفلسطينية وغيرها من القضايا المحورية ضمن المجال العربي.
هذه الحساسية المدّعاة للسيادة، والمبالغة في ردود الفعل على مجرد تصريح، لا توظّف في إطار العلاقة مع الغرب، فكل تصريحات الساسة الغربيين التي انتقدت أو هاجمت أنظمة الخليج إياها تم تجاهلها أو تبريرها أو التهوين من شأنها، لأن المطلوب ألا تُستثار النفوس العربية ضد الأمريكي أو الأوروبي، بل ضد العربي فقط، وفي سياق يخدم سياسات هذه الأنظمة ويغطي عوراتها ويحجب حقيقة دورها.
وضمن هذا الإطار أيضًا كانت حملات شيطنة القضية الفلسطينية التي بدأت منذ أعوام وطالت الحق الفلسطيني تشكيكًا وهدمًا للثوابت التي تعارفت عليها الأمة، وحثًّا على الانسلاخ منها، والتقرب للمحتل الإسرائيلي بتجميله وتزيين جرائمه والترويج للتطبيع معه.
هذا الإغراق في العبثية والسخف والتيه في المشهد العربي يبيّن مدى التردي والإفلاس القيمي الذي وصلته هذه الأنظمة، ومدى استخفافها بالجمهور العربي، الذي يدرك جيدًا أبعاد هذه الحملات المفتعلة، لكنه مع ذلك يجد نفسه منخرطًا في معارك الإلهاء التي توجهها الأنظمة، مجنّدة لأجلها كل طاقاتها وسطوتها الإعلامية وأبواقها المأجورة، ومنتقلة من تصعيد إلى آخر، فيما حصيلة كل هذه الأزمات المفتعلة صفر كبير.