تسلك ممرًا ضيقًا منخفضًا عن منسوب الشوارع الحديثة ليعطي خصوصية لساكني القصر لتنزل درجتين، فإذا باب حديدي قديم تزينه الزخارف أعلاه، يقودك إلى ممر داخلي مسقوف بالأخشاب، وتتشكل أرضيته من رباعيات رخامية بألوان وأحجام مختلفة، يقود الزائر إلى قصر حتحت الأثري.
في داخل الأزقة المتفرعة جنوب شارع بغداد في حي الشجاعية شرق مدينة غزة يقع القصر الذي يجاوره مسجد السيدة رقية، وجامع ابن "عثمان" الأثريان، إضافة إلى مجموعة من المباني السكنية الأثرية.
بني القصر قبل ما يزيد على أربعة قرون، ويعد واحدًا من أقدم البيوت الأثرية المتميزة بطابعها العمراني والزخارف التراثية، وتعود ملكيته إلى (إبراهيم جلبي آل حتحت)، وهو كردي الأصل، بناه في القرن الثاني عشر الهجري، في نهاية حكم المماليك وبداية حكم العثمانيين.
فناء القصر المفتوح على السماء -وهو نظام بناء سائد قديمًا- تطل عليه جميع الغرف الجانبية، تزينه حاليًّا أرضيةٌ خضراء من العشب الصناعي، وتغطيه قطعة قماشية زرقاء تتسلل خيوط الشمس بين فتحاتها لتسترخي على حجارة القصر الخشنة التي كانت تُقدح قديمًا من التلال الصخرية، فتزيد لمعان لونها الرملي.
القصر الذي ترك سنوات طويلة تأكل حجارته العوامل المناخية ارتدى ثوب الماضي بحلة جديدة، وبات يستخدم مركزًا تعليميًّا للأطفال، تملأ غرفه المقاعد والألواح التعليمية البيضاء، وتتوسط الألعاب الفناء.
ويتكون القصر من طابق أرضي يضم سبع غرفٍ كبيرة، وإيوانًا، ومطبخين، على اليمين يوصلك درج جانبي إلى الطابق العلوي المحاط بإطار حديدي للحماية تتمدد عليه أغصان شجرة متسلقة هربت بعيدًا عن جذورها.
أسفل الدرج فتحة صغيرة مقوسة من الأعلى تسمى "مزيرة" كانت تستخدم خزانًا صغيرًا للمياه، بداخلها صنبور مياه، في صدر القصر تصل إلى "الإيوان" الذي يعلوه قوس كبير من الحجارة الرخامية الناعمة.
يسود القصر النظام الإنشائي المملوكي، حيث الأقبية والقباب المحمولة على حوائط، والفتحات في الجدارية (يوك) التي كانت تستخدم بدلًا من الخزن في ذلك الوقت.
تطلُ سبع غرفٍ بنوافذها العمودية وأبوابها الخشبية على الفناء، تلمح الحجارة الرخامية، السكرية والوردية اللون على الأقواس والعقود وعلى النوافذ وجوانبها.
قصة القصر
تعود قصة المبنى إلى سالم حتحت أحد كبار تجار غزة الذي كان يلقب بـ"فخر التجار"، وهو أحد أحفاد إبراهيم حتحت الذي بنى القصر، إذ ذهب إلى الأستانة ليشكو حاكم غزة بسبب كثرة مضايقته له، وفي إثر تلك الزيارة منح حتحت حُجة تعفيه من الضرائب المفروضة عليه، في الوقت نفسه تزوج أخت السلطان العثماني.
مدير البلدة القديمة لمدينة غزة بوزارة السياحة والآثار د. حمودة الدهدار الذي روى لصحيفة "فلسطين" القصة السابقة يبين علاقة وجود الأكراد في حي الشجاعية، عائدًا إلى التاريخ القديم، فحي "الشجاعية" سمي بذلك نسبة إلى القائد شجاع الدين الكردي، هو أحد قادة المماليك آنذاك جاء من العراق غزة للمشاركة مع المماليك في الحرب على الصليبيين.
رفض شجاع الدين المكوث في البلدة القديمة لمدينة غزة، وطلب أن يستقر هو وجيشه وينصبوا الخيام في المنطقة الشرقية للبلدة القديمة التي تسمى حاليا حي الشجاعية، فحدثت حرب طاحنة بين المسلمين المماليك والصليبيين على حدود مدينة غزة، واستشهد شجاع الدين الكردي، فسمي الحي باسمه، يتمم الدهدار: "نجد أن كثيرًا من العائلات بالشجاعية أصلها كردي، كذلك هناك الكثير من المعالم الأثرية والتاريخية".
مرت السنوات والقرون، وبقي القصر شاهدًا على حقب تاريخية عاشتها غزة، لكن بسبب الحروب والعوامل الجوية المختلفة تأثر القصر كثيرًا، كما يشير الدهدار، وحدثت انهيارات وتصدعات ببعض الجدران والأسقف، فترك آل حتحت المكان وانتقلوا إلى أماكن أخرى بسبب سوء حالة المبنى.
يقول: "في هذا الوقت كان لدينا بوزارة السياحة والآثار الكثير من المباني الأثرية التي تحتاج إلى تدخل طارئ ومعالجة، ومنها بيت حتحت".
في عام 2009 عملت جمعية مبرة الرحمة الخيرية على ترميم المكان بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار ومركز "إيوان" المختص بترميم الأماكن التاريخية، حيث عولجت التشققات وأعيد تأسيس القصر، ليصبح جزء منه مقرًّا للجمعية، وأُجِّر الآخر لروضة.