سيارةٌ بمعالم جديدة بعدما تلقت ضربة قوية من جانبها الأيمن فصلت مقدمتها عن باقي هيكلها، خلعت بابها الأمامي متداخلًا مع حطام المقدمة، وأصبح الباب الخلفي مجوفًا إلى الداخل، وتقلص عرضها من شدة الحادث، وكأنها وضعت تحت مكبس حديدي.
تحمل السيارة المركونة عند مفرق "السرايا" وسط مدينة غزة درسًا وعبرةً يذكران السائقين والمواطنين بالنهاية المأساوية للسرعة الزائدة، يعلوها لافتة كتب عليها: "قف وفكر.. هذه نهاية السرعة الزائدة".
قطع الشاب حسن السلطان مسيره مع صديقيه من أمام السيارة واقترب منها، يتأمل هيكلها المدمر وقد أصبحت كومة من الخردة، يمسك بابها الخلفي الذي يوشك أن يقع، موجهًا حديثه إلى صديقه في ذهول: "يا إلهي، إيش هدا، مش حرام هيك؟!"، تحرك مشهد الحادث في مخيلة صديقه وكأنه يشاهد لحظة ارتطام مركبة دفع رباعي بهذه السيارة مطبقة سائقها على ركابها من الداخل، فلا مفر من النجاة هنا، كما يعتقد، يرد على ذهول حسن: "بتلاقيهم ماتوا".
"سألتُ نفسي لماذا كان السائق مسرعًا إلى هذا الحد؟! أليس حرامًا؟، ألم يتذكر أطفاله الذين ينتظرون عودته للمنزل، وزوجته، وأمه وعائلته وكل من يحبه؟! أيضًا ألم يفكر بأرواح الركاب وحياة الآخرين؟! لا تجد إجابة عن هذا التهور" يتساءل حسن في حديثه إلى صحيفة "فلسطين.
إضافة إلى مفرق "السرايا" وضعت شرطة المرور سيارة أخرى حصل معها حادث مماثل عند "دوار الكويت" (تقاطع شارع 10 مع شارع صلاح الدين)، وفي شارع الرشيد، لكونهما أكثر الشوارع تسجيلًا للحوادث بسبب السرعة الزائدة، محاولة تقديم رسائل بصرية للسائقين من أجل وقف نزف الدماء على الطريق.
وقفة مراجعة
على مفرق السرايا ينتظر مؤمن النجار الساعة السابعة والنصف مساءً ركابًا لنقلهم من غزة إلى رفح، كانت نظراته تهرب منه لا إراديًّا نحو السيارة المحطمة بين الفينة والأخرى، يقول: "بكل صدق جعلني مشهد هذه السيارة أراجع نفسي كثيرًا، تذكرت بعض الحوادث التي جرت معي، تذكرت بدايتي في القيادة عندما كنت أقود بسرعة، إن لم يراجع السائق نفسه ويغير سلوكه أمام هذه المشاهد فلا قلب له".
سائق آخر حضر حديثنا أضاف إلى حديث زميله: "أحيانًا تغرينا الطريق، خاصة شارع صلاح الدين عندما يكون فارغًا تقريبًا من السيارات، تحديدًا في أوقات المساء (...) قد يخرج لكَ كلب من بين الأرصفة والجزر يسبب حادثًا، عن نفسي وضعت منبهًا على شاشة لوحة التحكم، في حال تجاوزت السرعة 120 ك يعطيني إشارات تحذيرية".
ويشار إلى أن قوانين السير الفلسطينية تحظر زيادة السرعة في الطرق الداخلية على 80 كم في الساعة.
ينبش المنظر المأساوي ذاكرة الشاب رمزي المصري وهو بائع بسطة قرب مفرق السرايا، ويذكره بعدة حوادث مشابهة، كان آخرها وفاة فتاتين في أثناء عودتهما من فرح.
الملازم عبد الكريم الشرفا في شرطة المرور الذي يقف مع زميله ينظمان حركة السير يؤكد أن المشهد يحمل رسائل وعِبر تذكر السائقين المتهورين بالمصير ذاته، إن لم يلتزموا القانون، لكن قصة الحادث لم تنتهِ كما اعتقد الشاب حسن، إذ إن إصابات من كانوا في المركبة خطرة ولا يزالون على أسرة المشفى "بين الحياة والموت".
وحسب إحصائية خاصة حصلت عليها صحيفة "فلسطين" من شرطة المرور إن إجمالي عدد الحوادث بلغ منذ بداية 2021 حتى اللحظة نحو 1399 حادثًا، تسببت في وفاة 39 مواطنًا.
نزف على الطريق
مدير إدارة المرور والنجدة بالشرطة العميد تامر شحادة ينبه لوجود مستجدات في موضوع الحالة المرورية أصبح لا يمكن السكوت عنها، فنزف الدماء على الطريق يجب أن ينتهي بوضع حد للسائقين "المنفلتين والمستخفين" بأرواح المواطنين.
ويشير شحادة في حديث لـ"فلسطين" إلى أن الخسائر بالأرواح أقل من كل عام، مستدركًا: "لكن عدد الحوادث نذير سيئ، سببه دخول سيارات حديثة بإمكانات وسرعات تكنولوجية متطورة، لا تناسب شوارع غزة الضيقة، حينما يقودها سائقون صغار دون رخصة قيادة يصبح الموضوع مخيفًا، وهنا تقف شرطة المرور عند مسؤولياتها لتأمين حياة الناس".
يقول: "نريد حقن الدماء على الطريق، والوصول إلى مرحلة لا نسجل فيها أي حالة وفاة".
وبشأن وضع السيارات على المفارق الرئيسة يأمل شحادة أن تحقق الرسائل البصرية هدفها بتذكير السائقين بالعواقب الوخيمة للسرعة الزائدة.
ويؤكد أن شرطة المرور تعمل وفق خطة ممنهجة مستمرة لمنع الحوادث المرورية، وليست حملة مؤقتة لها بداية ونهاية، وهذا الأمر يحتم على المواطنين مشاركة "المرور" في المحافظة على الأرواح، وتكاتف جميع فئات المجتمع، متممًا: "لا نريد ربط الحوادث بالحصار، لأن الحصار بريء ممن يقطع الإشارة الضوئية الحمراء، وبريء ممن يقود دون رخصة قيادة".
وعن الخطة التي تحدث عنها يوضح شحادة أن الشرطة عملت على ترتيب وضعها الداخلي باعتماد ضباط وأفراد ضالعين في القانون والإجراءات الإدارية، وترميم الفجوة بين المواطن وشرطة المرور بتنفيذ يوم أسبوعي مفتوح في كل محافظة، ورفع معدل ثقة السائقين بشرطة المرور.
ويستدرك قائلًا: "لسنا شرطة جباية، حتى إننا في المدة القادمة سنفرض عقوبة مجتمعية تفيد المجتمع وليست مادية".
وحسب حديث شحادة إن شرطة المرور تعاملت بحزم خلال المدة الماضية مع المخالفات المتعلقة بالسرعة الزائدة، والحركات البهلوانية الاستعراضية، وقطع الإشارة، والدخول بالاتجاه المعاكس، والسير دون رخصة، كذلك ألزمت شاحنات تعبئة المياه الحلوة والشاحنات التجارية بوزن 15 طنًّا تركيب كاميرات خلفية وشاشة للسائق تؤمن رؤية واضحة له في أثناء رجوعه إلى الخلف، مع تسجيل ضحايا أطفال توفوا تحت عجلات هذه الشاحنات، محذرًا أن الشرطة "ستحاسب غير الملتزمين تركيب الكاميرات".