المتابع لقضايا الشعب الفلسطيني على مدار سنين ومقاومته للمحتل، يرى جليًّا أن قضية الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال تستحوذ على اهتمام الكل الفلسطيني، لا سيما وأن كل بيت قد اكتوى بنار قضبان الاحتلال، بابنه أو ابنته أو رب الأسرة.
ولم تكن تلك القضية إلا أولوية قصوى وهدفًا ساميًا سعت المقاومة على مدار سنوات إعدادها لإيجاد حل لها، بوسائل عدة، ولم تجد أنجع من عمليات أسر الجنود وعقد صفقات تبادل، فتوّجت المقاومة جهدها العسكري والأمني والسياسي الكبير بصفقة "وفاء الأحرار" عام 2011 بعد معركة أمنية شرسة ومفاوضات نِدّية شاقة.
منذ الخامس والعشرين من يونيو/حزيران عام 2006 عقب إعلان المقاومة الفلسطينية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في عملية أطلق عليها اسم "الوهم المتبدد" شرق مدينة رفح، انطلق مشوار الضغط على قطاع غزة، وتناحر قادة الاحتلال في طريق استعادة هذا الجندي دون إعطاء المقاومة أي مكسب مقابل ذلك، تارة بفرض حصار مطبق على شتى مناحي الحياة في غزة، مرورًا بحرب شرسة نهاية عام 2008، وليس انتهاءً بالجولات السياسية مع الوسطاء على مدار خمس سنوات.
حاول الاحتلال فتح قنوات تواصل مع المقاومة الفلسطينية منذ لحظة الأسر عبر عدة وساطات عربية ودولية سعيًا منه لمعرفة مصيره والإفراج عنه، إلا أن قبضة المقاومة كانت أشد، وحاضنتها الشعبية كانت أكثر تشبثًا بها من ذي قبل، حين نجحت "وحدة الظل" المعرّفة لاحقًا بهذا الاسم بإخفاء شاليط، حتى يُدفع الثمن الذي يليق بمعاناة آلاف الأسرى داخل سجون الاحتلال.
تواصل الضغط على قطاع غزة وحديث الاحتلال مع الوسطاء إلى أن نجحت المقاومة في إنجاز "صفقة الحرائر" التي تم بموجبها الإفراج عن تسعة عشر أسيرة فلسطينية من سجون الاحتلال مقابل شريط فيديو مصور يظهر الحالة الصحية للجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، في إنجازٍ أدخل حكومة نتنياهو في مأزق مع الرأي العام الإسرائيلي وبدء الضغط على القيادة السياسية للموافقة على مطالب فصائل المقاومة الآسرة، ولم يعد أمام حكومة نتنياهو مجالًا للمماطلة بعد أن قدمت المقاومة دليلًا دامغًا يثبت أن الجندي الأسير على قيد الحياة.
ولعب الأسرى داخل سجون الاحتلال دورًا مهمًا في المفاوضات، وكان لهم حضور فاعل فيها واختيار الأسماء المدرجة في كشف الإفراج، إلى أن رضخ الاحتلال لشروط المقاومة بتنفيذ صفقة على مرحلتين أولها بتاريخ 18 أكتوبر 2011 حين قام الاحتلال بالإفراج عن 477 أسيرا فلسطينيا وتسليمهم إلى الصليب الأحمر الدولي فيما قامت حماس بتسليم جلعاد شاليط إلى مصر، وأفرج الاحتلال عن 550 أسيرًا فلسطينيًا في 18 ديسمبر 2011 استكمالًا للصفقة في مرحلتها الثانية، توجه 505 منهم إلى الضفة الغربية فيما توجه 41 إلى قطاع غزة.
إنجاز تاريخي
لم تكن "الوهم المتبدد" مجرد عملية نوعية تربعت في صدر السجل النضالي التاريخي بل شكلت العملية وما ترتب عليها من إنجاز تاريخي متمثل في صفقة التبادل "وفاء الاحرار" تحولا تاريخيا في الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، بحسب الناطق باسم حركة حماس عن مدينة القدس الأسير المحرر في صفقة وفاء الأحرار محمد حمادة.
ويضيف حمادة المبعد إلى قطاع غزة خلال حديثه لصحيفة فلسطين، أن مشاهد هذا الإنجاز تمثلت في كونها المرة الأولى في تاريخ الثورة الفلسطينية التي تتم فصول صفقة على أرض فلسطين بعد أن كان الاعتقاد لدى جمع كبير أن قادة الاحتلال لن يرضخوا لمطالب وعملية تبادل مع مجموعة داخل فلسطين.
وكانت الصفقة محطة مهمة لإبراز قدرات المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها كتائب القسام في التخطيط وكتمان السر ثم التنفيذ والنجاح، الذي يدل على التفوق الأمني في التعمية على الاحتلال على مدار سنوات أسر الجندي الخمس.
وأظهرت الصفقة ودهاليزها نضجًا لدى الفريق المفاوض وقدرة عالية على فرض المطالب على الاحتلال، لاسيما إطلاق سراح أسرى فلسطينيين من الداخل المحتل، وهو ما كان يرفضه الاحتلال، يضاف لذلك، أنها شكلت حالة مهمة في تعزيز ثقة الشارع الفلسطيني في نهج المقاومة وتحميل الآمال عليها.
مرحلة جديدة
بدوره، قال المحلل السياسي المقدسي راسم عبيدات: إن صفقة وفاء الأحرار أسست لمرحلة جديدة عنوانها أن قفل الاحتلال على الأسرى مكسور لا محالة، وأن قضيتهم لم تعد طي النسيان كما تعاملت معها أوسلو، وأن هناك من يعمل على تحريرهم.
ويضيف عبيدات لصحيفة "فلسطين"، أنه على الرغم من إعادة الاحتلال اعتقالَ عدد كبير من محرري الصفقة في عام 2014 إلا أن الثقة بوعود المقاومة باتت حتمية التحقق، لا سيما الوعد الأخير من قبل القسام بتحرير أسرى نفق الحرية الذين نجحوا في انتزاع حريتهم لأيام قليلة قبل أن يُعاد اعتقالهم، وعلى الجانب الآخر هي بارقة أمل لعمداء الأسرى بأن هذه طريق السجن نهايته معلومة، حرية على يد مقاوم.