رمضان في الأقصى له نكهة خاصة لا ينافسه فيها أحد، حيث المداخل المزينة، والساحات الممتلئة بحلقات العلم والدروس، والباحات الممتلئة بموائد الرحمن، والمصلون المعتكفون والمندمجون في تلاوة القرآن، فكلٌّ مشغول بتطهير نفسه من الذنوب والمعاصي والتقرب إلى الله، وتزداد البركة في المسجد الأقصى عندما تجتمع معه بركة الزمان وهو شهر رمضان، فالأقصى في هذا الشهر هو الغذاء للروح.
للحظة استيقظ أبو خالد العباسي على نفسه وهو يستعيد ذكرياته في المسجد الأقصى ويصف أجواءه في رمضان، يقول لـ"فلسطين": "رمضان الحالي أعيش بقهر، خاصة عندما أسمع صوت الأذان في الأقصى ولا أستطيع الصلاة مع الناس".
وجع الإبعاد
أبو خالد العباسي (58 عامًا) مواطن بسيط من سكان القدس الأصليين من عائلة معروفة، فهي من أكبر عائلات سلوان العباسية، التحق بمصاطب العلم بالمسجد الأقصى بعدما تفرغ من العمل، وحصل على إجازة بتعليم القرآن.
بمجرد أن سألته مراسلة صحيفة "فلسطين" عن ذكرياته الرمضانية، وماذا يفقد في رمضان الجاري بحكم قوانين الاحتلال "الجائرة" التي حرمته الصلاة في المسجد الأقصى؛ علا صوت تنهيدة تحاكي الألم الكامن في قلبه، فقال: "يا الله، ما أصعب أن تتحدث عن ذكرياتك بالأقصى!، ثم كيف لها أن تصبح ذكريات، وأنا ساكن بجواره، أسمع انينه بسبب اقتحامات المستوطنين، وصوت الأذان، وصوت التراويح؟!، فالذكريات أن تكون بعيدًا عن المكان ولا تراه عينك".
فقد كان قرار إبعاده عن المسجد الأقصى، وحرمانه دخوله منذ عامين كأنه حكم عليه بـ"الإعدام"، أضاف: "فأنا مولود على أعتاب المسجد الأقصى، ترعرعت بساحاته، لعبت مع الأطفال، تسلقت أشجاره، أعرف الأقصى أكثر من بيتي".
وقبل ستة أعوام أسست مصاطب العلم بساحات الأقصى، فالتحق بها وتعلم ما لم يتعلمه في صغره، فزاد حب الأقصى بقلبه، "وعرفت أن الأقصى ليس مسجدًا فحسب، بل هو عقيدة راسخة، وسماه رب العزة (سبحانه) من فوق سبع سماوات وخصه بسورة الإسراء".
وبين العباسي أنه بسبب صلاته بالأقصى وحبه له اعتقل شهرًا ثم نفذ حكم الإبعاد عن قريته والمسجد حتى إشعار آخر بتهمة أنه مرابط يدافع عن مقدساته، ويشكل خطرًا على كيان الاحتلال، ويعرقل اقتحام المستوطنين لساحة الأقصى، ويكبر بصوت عالٍ، وكلمة: "الله أكبر" تخيف المستوطنين.
روحانية رمضان
وتابع حديثه: "فمركز حياتي البلدة القديمة، ولكن حاليًّا أنظر إليها من بعيد، ويمنع أن أقترب من بوابات المسجد الأقصى"، وعاد بذاكرته قليلًا إلى رمضان الذي قضاه في الأقصى: "كنت أصلي الفجر وأجلس في ربوعه، أسمع القرآن وأتلوه حتى أذان العصر، أصلي ثم أعود إلى البيت قبل ضرب مدفع الإفطار، ثم أعود لصلاة العشاء والتراويح".
كان يشتم رائحة غريبة بساحة الأقصى، "أهي رائحة الجنة؟!"، أما ليلة القدر العظيمة بتفاصيلها وروحانياتها التي يحييها بالدروس والمواعظ والقرآن والدعاء فليلة القدر بالأقصى لها طعم خاص، لا يتذوقه إلا من كان الأقصى في قلبه.
يفتقد العباسي في شهر رمضان حريته ومسجده وأصدقاءه، وقال: "رمضان جميل، ولكن بالأقصى أجمل، والفرق بين أن تقضي رمضان بالأقصى وأن تقضيه بعيدًا عنه كالفرق بين أن تسكن بالجنة وأن تسكن بالصحراء، فالأقصى يذكرك بأمجاد أجدادك الذين ضحوا بدمائهم من أجله، وعلى مقربة من باب الأسباط وتحديدًا باب الرحمة ضريح الصحابي شداد بن أوس، وعبادة بن الصامت، ومنبر صلاح الدين، ومحراب مريم وزكريا".
وبين العباسي أن الأقصى حزين، بسبب الاقتحامات المتكررة بأعداد كبيرة من المستوطنين وأفراد الشرطة الذين يضفون جوًّا من الرعب والخوف بين المصلين، ويصادرون التمر والماء على الأبواب، سائلًا الله أن يهيئ أيادي متوضئة تحرر البلاد والعباد من دنس الاحتلال.