أن تتاح لك الفرصة أن تطل عبر صحيفة "فلسطين" الصادرة في فلسطين، مرة كل أسبوع، أمر له أكثر من معنى، خاصة لكاتب مثلي طافت مقالته عواصم كثيرة، ثم استقر به المقام في فلسطين، هي ببساطة ممارسة عملية لحق العودة، الذي حرم منه الفلسطيني اللاجئ، الذي لم تبقَ بقعة في الأرض "تعتب" عليه، إلا ووطئ أرضها، أسرتي الكبيرة مثلا، كان آخر اجتماع لها بكامل أعضائها، بُعيد عام "النكسة" بقليل، حيث سافرت الأخت الكبرى إلى عمان، وتوفيت هناك، ثم سافر الأخ الأكبر إلى الكويت، فمكة المكرمة، والتحقت أنا فيما بعد بالجامعة الأردنية، ثم مات أبي ولم أعلم بوفاته إلا حين قرأت نعيه في صحيفة "القدس" المقدسية، حيث كنت أعمل في وكالة الأنباء الأردنية، قبل أن يخترع العالم الهاتف النقال، وكانت وسيلة التواصل الأكثر شيوعا إما الرسائل المكتوبة، وإما عبر برنامج "رسائل شوق" الذي كانت تبثه إذاعة عمان، وشكل في فترة ما وسيلة التواصل بين الضفتين، وكان ثمة وسيلة تواصل أخرى هي عبر الهاتف بين عمان ومدن الضفة الغربية عبر قبرص، وهذه الوسيلة لم تكن شائعة ربما لكلفتها العالية، ثم توفيت الوالدة، ولحق بها اثنان من الإخوة الذكور، وأخت ثانية، وهكذا تأبد الفراق، وصار من المستحيل أن يلتئم شمل الأسرة!
ولعل هذا ما حدث ويحدث مع أسرتي الصغيرة، فنحن نقيم في عمان، وآخر عهدي بالتئام شمل الأسرة كان منذ سنوات بعيدة، حيث توزع الأبناء على أكثر من قارة، ونحن لسنا بدعا من أبناء الشتات، حيث يندر أن تجد أسرة ملتئمة الشمل، ولهذا حين أعود للكتابة في فلسطين، أشعر فعلا أنني أعود رغم أنف الاحتلال، الذي فرقنا، وأقول "أعود" لأنني بدأت النشر في صحافة فلسطين وأنا على مقاعد الدراسة الثانوية، في سبعينيات القرن الماضي، حيث كنت أكتب بصورة دائمة في صحف "القدس" و"الشعب" و"الفجر" ومجلة "البيادر" وكلها كانت تصدر في القدس، وها أنا ذا أعود وكلي أمل أن تكتمل عودتنا قريبا بصورة فعلية.
أستميح القارئ عذرا في الحديث عن هذا الشأن الشخصي، في إطلالتي الأولى على قراء "فلسطين" الصحيفة والوطن، فربما ليس من حقي أن أشغل هذا الحيز بما هو شخصي، لولا تداخله مع ما هو عام، فقصة عائلتي هي قصة كل عائلة فلسطينية احتضنتها المنافي، وفرحتي اليوم بممارسة حقي في العودة إلى فلسطين، ولو مجازا، أكبر من أن أخفيها، أو أن أتجاهلها.
وثمة جانب ذو مغزى في ممارسة حقي في العودة، فأنا أعود اليوم ليس إلى قريتي المحتلة وهي "الشيخ مونس" الواقعة في ضواحي يافا، ثم ابتلعتها (تل أبيب) وجامعتها الشهيرة، بل أعود إلى أرض ليست فقط "محررة" بمعنى من المعاني، بل هي بوابة التحرير الكبير –إن شاء الله- فهي مهوى أفئدة الملايين من أبناء الأمة، على الرغم مما تعانيه من حصار بري وبحري وجوي، هو في حقيقته الفضاء الحر الوحيد في دنيا العرب، حيث يستطيع أهلها متى ما أرادوا إيقاف كيان العدو كله على إصبع القدم الصغير، وتلك كرامة لم يمنحها رب العزة إلا لغزة، فهنيئا لكم يا أهل غزة، وهنيئا لي أن قبلتموني عائدا لكم، ولو عبر هذه الزاوية الأسبوعية!
نحن ندرك حجم المعاناة التي يعانيها مَن يعيش منذ نحو ستة عشر عاما تحت حصار جائر ومؤلم من العدو والأخ والجار، ولكن ما يخفف عنكم يا أهل غزة أن الله اصطفاكم دون العالمين لتكونوا شوكة في حلوق الصهاينة، ومن يشد على أيديهم ويدعمهم ويضع يده في أيديهم، وتلك مرتبة لا يستحق أن ينعم بها أحد من سقط القوم وحثالة البشر، تلك مرتبة رفيعة من التكريم يطيب للمرء معها أن يرحب بما يدفعه من ثمن، في زمن أصبحت الذلة والقهر والمسكنة كتابا مكتوبا على جل بلاد العرب، وفزتم أنتم بما حرم منه غيركم، فهنيئا لكم، وهنيئا لي أن قبلتموني بينكم "عائدا" إلى فلسطين، الصحيفة والوطن.
أخيرًا..
أكتب لكم يا أهل "فلسطين" من عمان، عاصمة الدفء والحب اللذين لا ينتهيان لفلسطين ولأهلها، عمان الرئة التي تتنفس منها فلسطين، وتطل منها على الكوكب، كانت ولم تزل وستظل أرض الرباط، توأم القدس وموئل الأحرار، وملاذ المهاجرين الباحثين عن أنصار، عز وجودهم، إلا في هذه البقعة الطاهرة، من بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.