فلسطين أون لاين

عمره 450 عامًا وأضحى بعد ترميمه مركزًا ثقافيًّا إعلاميًّا

بيت العشي.. مزار عريق يتجذر في أصول التراث الفلسطيني

...
تصوير/ ياسر فتحي
غزة/ يحيى اليعقوبي:

أقواسه وقبابه وزخارفه الهندسية وحجارته الممتدة عبر مئات السنين، تحكي قصة بناء متجذر في أصول التراث الفلسطيني.

في قلب البلدة القديمة لمدينة غزة، وعلى مقربة من المسجد العمري الكبير، يقع بيت العشي الأثري وسباطه الذي يزيد عمره على 450 عامًا، أصبح اليوم مزارًا ثقافيًّا وإعلاميًّا في إثر عملية ترميم واسعة نفذها مركز عمارة التراث "إيوان" بكلية الهندسة في الجامعة الإسلامية بغزة.

بعد المدخل الرئيس للبيت، تصل إلى الفناء المحاط بأسوار ترتفع عن الأرض نحو ثلاثة أمتار، وهي ساحة مفتوحة كانت عنصرًا أساسيًا في بناء البيوت القديمة، تعطيها كفاءة مناخية عالية تسمح بمرور الهواء إلى بقية غرف المنزل المتصلة به.

على اليمين يوجد درج يصل إلى الطابق العلوي من البيت يزين أسفله تجويف مقوس يسمى "مزيرة" كانت تستخدم خزانًا صغيرًا للمياه، وفي صدر البيت بجوار الدرج باب محاط بحجارة صخرية قديمة يعلوها زخارف هندسية محفورة يدويًا بدقة، يدخلك إلى غرفتين مفتوحتين تعلوهما قباب وأقواس كبيرة من الاتجاهات كافة.

تزين الغرفتين فوانيس فخارية بها فتحات تخرج إضاءة صفراء تكسب المكان رونقًا جميلاً وتبعث هدوءًا وسكينة في نفوس الزائرين. وفي جدران الغرفتين تجويف مقوس يسمى "اليوك"، كانت يستخدم أرففًا لوضع الأغراض أو الأغطية والمستلزمات.

تطل ساحة الفناء على "الإيوان" وهي غرفة معيشة لاستقبال الزائرين، كان قديمًا يوجد بها مقاعد ثابتة ببسط تقليدية، وهي مقوسة السقف من ثلاثة جوانب، في حين أن الجهة الغربية تطل على الفناء بواسطة عمودين وقوس كبير من الحجارة الرخامية الناعمة "سكرية" اللون تشكل القوس، ثم تعلوها الحجارة الطبيعية ذات الملمس الخشن.

حجارة أثرية

هذه الحجارة كما تلقي مهندسة مشاريع الحفاظ على الأماكن الأثرية بمركز "إيوان" نشوى الرملاوي، نظرة تاريخية عليها، هي من حجارة غزة الطبيعية التي كانت قديما تُقدح من التلال الصخرية ومن ثم تُورد للمحاجر من أجل تربيعها لأغراض البناء كما في بيت العشي.

وتوضح أن الحجارة الرخامية، سكرية ووردية اللون توجد في الأقواس والعقود وعلى النوافذ وجوانبها، وهذه لم تكن متوافرة بغزة، إنما تُجلَب من الضفة الغربية أو عبر البحر من الدول الأخرى.

جمال البيوت الغزية القديمة، يعكس بالنسبة إلى الرملاوي "تاريخنا وتراثنا المعماري وتجذرنا في أرضنا، وصورة مدينة غزة في ذاك الوقت بوصفها مدينة عريقة، كان سكانها على قدرٍ من الثراء والاهتمام بالعمارة التي وُرثت للأجيال".

وتضيف أن منزل العشي يعود إلى العهد المملوكي، إذ امتلكته عائلة "سيسالم" قبل أن ينتقل لعائلة "العشي"، مشيرة إلى أن الفناء يضم ثلاث غرف وإيوانًا ومطبخًا بمدخنة تدلل على أن المداخن المنزلية لم تكن وليدة العصر الحديث بل هي موجودة منذ القدم.

وتوضح الرملاوي أن المساحة الإجمالية للطابق الأرضي تبلغ قرابة 220 مترا مربعا، مشيرا إلى أن الطابق العلوي من البيت يغطي الشارع بواسطة قنطرة "سباط" ما تزال قابعة، كانت تستخدم منارةً للبيت لرصد كل التحركات.

جهود ترميم مضنية

جدران البيت المتلاصقة بالبيوت المجاورة، تُظهِر -وفق مدير مشروع "إيوان" محمود البلعاوي- أن المنزل جزء من كتلة بناء متكاملة كانت متصلة بالجامع العمري الكبير بمدينة غزة، لكن يصعب تحديد ماهية الكتلة التي اندثرت عبر الزمن، لكون هذه المنطقة تعرضت للقصف من البحر من قبل المدفعية البريطانية، إذ تعرض خلالها العديد من المباني للتدمير، إضافة إلى وجود كتل ملحقة بالبيت دمرت في فترة سابقة، على الأرجح أنها كانت في الطابق العلوي.

المنزل الذي تظهر حجارته الخشنة في أبهى صورها، والمكان الذي ارتدى ثوب الماضي بحلة جمالية تستشعر من خلالها عظم الإنجاز بالعمل على تأهيله من عام 2009، لم يكن هكذا لحظة تكليف المهندس عوض مصبح المختص بإعادة ترميم الأماكن الأثرية.

وبينما كان مصبح يتفقد الغرفتين الداخليتين، قفزت أمامه صورة المكان لحظة تسلمه، قائلا لصحيفة "فلسطين": "الكثير من الحجارة كانت متساقطة، سقف المقوس تالف وتملؤه الشقوق، والحال نفسه للجدران والأرضية؛ فمساحة واسعة من البلاط أتى عليه الزمن، كان المكان لا يطاق".

وجد مصبح نفسه أمام مشكلات إنشائية عديدة، أبرزها وجود ضغط إنشائي وتدخل خرساني حديث الشكل وأحمال زائدة على سقف البيت من الأعلى، كما أن السقف مغطى بطبقة خرسانية من "القصارة البيضاء"، عمل على إزالتها وتنظيف الحجارة وتثبيتها.

حفظ الهوية

وعملت مؤسسة اليونسكو على تأثيث بيت العشي ليصبح مركزًا ثقافيًّا ومزارًا تراثيًّا لكل المهتمين بالتراث والثقافة الفلسطينية بناء على رغبة مالكه رياض العشي، في حين سيديره نجله إسماعيل.

وعن دوافع تحويل البيت إلى مركز ثقافي، يوضح إسماعيل أن أهمها: الحفاظ على التراث وتاريخ وجذور الهوية الفلسطينية وحياة الفلسطينيين منذ القدم، وذلك بسبب الزحف العمراني الحديث للكثير من مناطق قطاع غزة الأثرية، وما وصفه بـ "المجازر" التي طالت البيوت الأثرية.

رئيس بلدية غزة د. يحيى السراج الذي قص شريط افتتاح المبنى بحضور ممثلين عن وزارة السياحة والجامعة الإسلامية وشخصيات عديدة، يؤكد أن إحياء التراث وترميم المباني من صميم أهداف بلدية غزة، التي يجب أن تدافع عنها وتحميها بكل ما تستطيع من إمكانات، "فإحياء هذه الأماكن رافعة اقتصادية واجتماعية وتاريخية لسكانها".

وقال: "في بيت العشي نرى تحفا فنية وزخرفية جميلة، وواضح أن أهله يقصدون جعله مزارًا ثقافيًّا رائعًا"، لافتا إلى أن البلدية تشرع بترميم سوق الزاوية، والكنيسة البيزنطية بحي الزيتون، وغيرها من الأماكن الأثرية.