بالقدر الذي بدت فيه حملة المقاطعة التي شنتها أنظمة السعودية والإمارات والبحرين على قطر جائرة، وغير مبررة من ناحية المصالح، وتبعاتها السيئة على المقاطِعين أكثر مما هي على المقاطَعين، فإنه يمكن قول الشيء نفسه عن الزج بحماس في أتون تلك الأزمة، فقد كانت سابقة قبيحة ومهينة أن يصرح نظام عربي بأن علاقة نظام آخر مع حماس من موجبات مقاطعته، وأن طرد الحركة من دياره من شروط إعادة وصله. هذا أمر لم يجرؤ حتى نظام السيسي على التصريح به، رغم أنه يحاصر الحركة وقطاع غزة بكل ما أوتي من قوة، ويلفّق قضاؤه لها ما شاء من افتراءات.
الحال أن ما صرّح به وزير الحرب الصهيوني المتطرف (ليبرمان) حين علّق مبتهجًا على حملة المقاطعة يعدّ أدق وصف لواقع النظام الرسمي العربي، وخاصة أنظمة التخريب منه، حين قال "إن ما جرى يؤكد أن (إسرائيل) لم تعد هي العدوّ بالنسبة للأنظمة العربية، بل التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها حماس". وفي الجانب الآخر غير المحكي من هذا التصريح فالحال أن التقرّب لـ(إسرائيل) بات هاجس هذه الأنظمة الأهم وغايتها القصوى، ولا بأس بهتك ستر كل المحرمات في سبيل ذلك، وبالدوس على جميع القيم، بل وباستجلاب غضب ونقمة شعوب هذه الأنظمة، التي لا يمنعها عن التعبير عن حنقها ورفضها المطلق لسياسات أنظمتها إلا تلك العقوبات الظالمة التي أقرّت بحق كل من يعبّر عن انتقاده لهذه السياسات أو يبدي تعاطفًا مع قطر أو مع من وردت أسماؤهم على لائحة الإرهاب إياها.
ربما يتعيّن علينا أن نتساءل عن السياقات التي مرّ بها النظام الرسمي العربي حتى وصل إلى هذا الدرك المنحط من الفجور، فأبرز عناوينه إما يشتغل معولًا لهدم تطلعات الشعوب وقتل يقينها بضرورات الثورة والتغيير، وإما يمارس إجرامًا مباشرًا غير مسبوق ضد شعبه. ولكن يبدو أن شعارات تمثيل أهل السنة من جهة، واحتكار محور الممانعة من الجهة المقابلة، قد غيّبا كثيرًا من اليقينيات المتعلقة بالبذرة الحقيقية لهذه الأنظمة، التي لم تنبت إلا الهوان والتبعية أو الشر والإجرام، فيما كانت حركات التحرر والمقاومة الأنظف ومعها ما تبقى من أنظمة متوازنة وصاعدة تُستهدف بالإضعاف والاستنزاف والحصار والمقاطعة.
مشكلة هذه الأنظمة ليست مع الإرهاب، ولكن المفارقة أنها (سوريا والسعودية مثلا) قد اختلفت واختصمت في تفصيلات تبدو اليوم غير جوهرية، وتوحدت على قاعدة (محاربة الإرهاب) وادعاء كل جهة بأنها أكثر من قدم من قرابين فداءً لتلك الحرب، ثم ها هي تتفق مجددًا في الهجوم على حماس (ولكلّ منطلقاته)، لكن الثابت الوحيد أن حماس مثلما أبت أن تكون حربةً في كنانة المجرمين لتنحر شعوبهم بها، فهي تأبى أن تغيّر جلدها لكي تتكيف مع البيئة العربية الرسمية الجديدة التي يشكل الإذعان المطلق معلمها الأبرز، ثم ما ينبني عليه من قربات للإدارة الأمريكية الجديدة، بسياساتها المتطرفة وتعاملها الحاسم مع كل جهة تناوئ كيان الاحتلال.
أن تكون حماس في قلب هذه الأزمة الجديدة، وأن يتردد اسمها كعنوان مرفوض ومحارب في وسائل إعلام السعودية والإمارات بلا حياء ودونما اعتبار لما يشكله ذلك من مساس بمشاعر أكثر الناس، فهذا يعني أن قادم الأيام لن تحمل انفراجًا أمام حماس، حتى لو تم التراجع عن مقاطعة قطر وجرى تسوية الأزمة خليجيًا معها، وهو ما يتطلب من الحركة أن تعدّ نفسها للأصعب، وذلك على كل حال ليس أوّل تحدّ صعب ومفاجئ يواجهها. لأن المتوقع وغير المفاجئ سيبقى دائما أن حماس كعنوان أبرز للعداء للاحتلال، وكمعنى للمقاومة النظيفة، وللقدرة على الاستمرار ومجابهة التحديات، ستظلّ محاربة في كل مكان، وسيظل الخطر محيقًا بامتداداتها المختلفة المادية والمعنوية، ليس فقط لأن الحرب عليها تحقق التزلف لأعدائها، بل كذلك لأن هدم الحركة كمعنى عظيم الأثر، وكمثال يستحق المحاكاة، وكأنموذج للبقاء رغم اشتداد عوامل الإفناء على مر السنين، وكقيمة تستجلب ثناء وإعجابًا من خارج بيئتها المحلية، ولأن فعلها المقاوم صنع حاضنة واسعة وممتدة لفكرها وأدبياتها ورمزياتها، وتلك أمور باتت من المحرمات في عُرف عرّابي الثورة المضادة، وعلى رفوف سوقهم السوداء.