فلسطين أون لاين

للقارئ الحساس.. درسٌ في الأصوات السردية من "نجيب محفوظ"

...
نجيب محفوظ (أرشيف)

تُنسجُ الروايات بثلاثة أصواتٍ سرديّة. الصوت الأول "أنا" المسمى أيضًا بالراوي الذاتي. والصوتُ الثاني "أنتَ" او الراوي المخاطب، والصوتُ الثالث "هو" المعروف باسم الراوي العليم، او الراوي الموضوعي.

هناك صوتٌ رابع يفاجئنا أحيانًا، كأن تُسرد الرواية بصوت ضمير المتكلم «نحن»، كما فعلت أغوتا كريستوف في "الدفتر الكبير" وآيان راند في رواية "ترتيلة"، لكنها حالات استثنائية شديدة الندرة.

ولأنَّ الرواية بطبيعتها نصٌ مدنيّ، ديموقراطي، أوركسترالي أيضًا، تطوَّر في الحواضر المتوتّرة وفي هُجنة بشرية غير مسبوقة تكثفت منذ القرن الثامن عشر وحتى لحظتنا هذه، فليس من قبيل الاستثناء أن تتعدّدَ الأصوات الروائية في العمل الواحد، وأن يخصِّب بعضها بعضًا، وأن تُجدل في توليفة صوتية متعددة الضمائر.

يميلُ البعض إلى تخيل "تعدد الأصوات" بطريقةٍ قاطعة، كما لو أنَّ قاطعًا حدوديًا او جدارًا فاصلًا يفصل بين صوتٍ وآخر، مثل صفحة بيضاء ناصعة تفصل بين فصلٍ وآخر. لكنَّ الأمر لا يجري بالضرورة على هذا النحو، إذ يمكنُ للتعدّد الصوتيّ أن يجيء عجينًا.

وليس بالضرورة أن يكونَ ذلك في روايات تجريبية وما بعد حداثية، مثل أعمال فرجينيا وولف او هيرتا مولر، بل يمكن أن يحدث في رواياتٍ ما زالت مخلصة للشكل الكلاسيكي، للحكاية الواضحة في انتقالها المعتاد من النقطة (أ) إلى النقطة (ب).

في رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ -مثلًا- نرى هذا اللعب الواضح مع الأصواتِ الثلاث في الفقرة الواحدة، فلنقرأ: "خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدرًا، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحديًا. آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة. نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسمًا واحدًا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديمًا ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر، ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقضُّ في الوقت المناسب كالقدر، وسناء إذا خطرت في النفس إنجاب عنها الحر والغبار والبغضاء والكدر، وسط الحنان فيها كالنقاء غب المطر. ماذا تعرفُ الصغير عن أبيها؟".

برشاقة بالغة ينتقلُ محفوظ بين صوتٍ وآخر، كما ينتقلُ العازفُ من مقامٍ موسيقى إلى آخر لأنه الأقدر على التعبير عن ذلك المعنى المحدّد.

تبدأ الفقرة منذ كلمة "خسر" وحتى "متحديًا" بالصوت الثالث (الراوي العليم) حيث الحكاية تُسرد بضمير الغائب «هو». ومع أننا لا نرى في السطر اللاحق "آن للغضبِ أن" تحولًا في الضمائر إلا أن ارتفاع النبرة، واستخدام الإطناب والتنويع على الصيغ التي تؤول إلى معنى واحد يعني ضِمنًا أننا انتقلنا من صوت "هو" إلى صوت "أنا" لأن هذا الغضب يعني التورط أكثر في الحكاية، يعني أن الراوي لم يعد شخصًا خارجًا عليها.

في السطور اللاحقة "أنتما تعملان.." يتحوَّل الراوي إلى الصوت الثاني «أنتَ» او إلى الضمير المخاطَب، فالسرد الآن وتر مشدود بين شخصيتين، والحكاية تتكشَّف أكثر من خلال ظهور شخصيات جديدة.

يمكنُ لفقرة واحدة أن تكون مادة ممتازة لورشةٍ مصغرة، لفهم الأصوات وامتزاجها وتنقلاتها. خلاصة الأمر أن السؤال الذي يدورُ بخلد الكثيرين حول (هل يجوز لي استخدام أكثر من صوت سردي؟) هو سؤال خاطئ، والصواب هو أن تسأل (هل أحتاج إلى تعددٍ صوتي؟ وكيف يمكنني تنفيذ الأمر دون أن يتحول عملي إلى متاهة؟).

الجواب على السؤال الأول يعتمد على طبيعة عملك. أما السؤال الثاني، فالجوابُ بسيط. لكن ما من ورشة عمل او تمرين محدد قادر على تعليمك كيف تقفزُ من صوت إلى صوت. ما تحتاجه ببساطة هو الرشاقة، الرشاقة التي تعني أحيانًا أن تثبَ من صوتٍ إلى آخر دون أن ينتبه القارئ. وثمة طريقة واحدة لكي تكون كاتبًا رشيقًا؛ أن تكتب كثيرًا وأن تقرأ أكثر.

المصدر / منصة تكوين الإبداعية