لكل واحدة من حكايا البطولة النابتة على ثرى الضفة الغربية في الأيام الأخيرة أثرها ولونها ودروسها، وهي باتت متكاثفة في يومياتنا حتى باتت معظم صباحاتنا حافلة بالجديد، تستنهض روحها وتمحو نمطية مراحلها، وتضيف للوعي الجمعي بصماتها المختلفة.
في سياق الأيام الأخيرة بزغ قمر أحرار نفق الحرية، الذين حرروا بفعلهم إرادة كانت حبيسة، وتظن نفسها عاجزة عن كنس ركام القهر وأغلال الظروف العصية على التجاوز، ومع تتابع تفاعلاتها اتسعت دائرة التحدي وتعمّق نفس المواجهة، وتراجع إحساس الهزيمة من النفوس.
أما صباح أمس فامتد عطره على مساحة الضفة الغربية كلها، كان الدم المبذول تحت لواء المواجهة عامل توحيد نبض الجماهير وهي تودع شهداءها وتحتفي بفعلهم، وتجعلهم نجومها ورموزها وعنوان وجودها، ثم وهي تتابع تفاصيل أحوالهم كلها، تاريخهم وسيرتهم، أصوات أمهاتهم وكلمات أحبتهم، تفاصيل مطاردتهم ولون الورد المنثور قرب دمهم، الشاهد على رحيلهم المشرّف، حتى والاحتلال يسحب جثامينهم ليحتفظ بها في ثلاجات الموتى.
من دم أسامة صبح في جنين، إلى النور الطالع من مساحات الاشتباك في بيت عنان، التي شهدت صعود فرسان بلدة بدّو: أحمد زهران ومحمود حميدان وزكريا بدوان، تناثرت قصص الإقدام في فضاءاتنا، حتى صرعت نعيق المهزومين.
لن يكفي كل كلام الدنيا للحديث عن حالة الفخر التي خطها الشهيد أحمد زهران، فجده وعمه شهيدان من قبله منذ عدة عقود، وله شقيق قسامي شهيد، ومعظم إخوته وأعمامه وأبنائهم حملوا إرث الرجولة الحاضر في عروق هذه العائلة، ولم تكسر السجون التي سلبت من أعمارهم أعوامًا طويلة شوكتهم، وكذا الحال مع الشهيدين محمود حميدان الذي تحرر من سجون الاحتلال قبل شهرين، بعد اعتقال دام ست سنوات ونصف سنة، وزكريا بدوان الذي تحرر حديثًا أيضًا بعد تسع سنوات من الاعتقال.
ولو انتقلنا إلى عائلاتهم، فستدهشنا تفاصيل صلابتهم وعزمهم، خصوصًا والدة الشهيد أحمد زهران، التي اكتشفتها كاميرات الإعلام أمس فقط، في حين هي ثابتة على ثغر التضحية وبذل الأبناء وحسن إعدادهم والثبات على تكاليف الطريق منذ عقود، الأصل ألا يدهشنا وجود أولئك الأمهات في واقعنا، لكن تسليط الضوء على تجاربهن واجب مهم في سياق معركة كبيرة وطويلة مع المحتل، أكثر ما نحتاج فيها إلى مراكمة عتاد الصمود والسموّ والإباء، وحين نجد هذا العتاد وفيرًا لدى منجبات رجالنا؛ ستتعزز ثقتنا بأن سيف المقاومة لا يمكن أن ينكسر، وأن ثقافة الاشتباك ضاربة جذورها في أعماق الأجيال، وإن بدا لمعتنقي الوهم والانكسار أن كل الناس نسيت قضيتها وذهلت عن واجبها.
يمكن لأفعال البطولة أن تؤجج حالة من المحاكاة والعدوى الإيجابية على مدى مساحات واسعة، مثلما يمكن للهزيمة أن تتمدد حتى تصيب النفوس السوية بالعطب، لكنّ تحييد الثانية وتعزيز الأولى يتطلبان جهدًا فذًّا على مستويات عديدة، إعلامية وسياسية وشعبية، بحيث يتركز الهدف على إنبات أفضل بذورنا، واستخراج اللآلئ من مدافنها، حتى يغدو سؤال الواجب حاضرًا في أذهان أكثر الناس، بدلًا من الجلوس على مقاعد المشاهدة.
فحكاية أحمد زهران وصحبه البررة قالت في أول فصولها: إن المقاتل صامت لا يثرثر، ولا يستعرض بسلاحه، ولا يهدد أو يتوعد، بل يترك لفعله أن يتحدث عنه، وأن يمتد أثرًا خالدًا، وإرثًا مجيدًا لكل راغب بالاقتداء وبحمل الراية من بعد من صانوها بدمهم، ومنحوها الألق والقيمة والمعنى.