قائمة الموقع

​وأودعتكِ يا أمي "ريحانةَ قلبي"

2017-06-11T08:48:47+03:00
ضياء صالحة (10 أعوام)

لولا فرق العُمر لظنّنا بعضهم صديقتين بل أُختين؛ فكلتانا _يا أمي_ سِرها لدى الأخرى، وتبوح لها، ونضحك ونحزن معًا، ونتسامر ليلًا والقمر يتلصص على حكاياتنا من نوافذ الرحمن، نستلقي ونسند أقدامنا إلى جدار النافذة فتسرب أصوات ضحكاتنا لكل الجيران، كنتُ لكِ الماء والهواء؛ فصبرك عشر سنوات تلوكين فيها تسابيح الانتظار لتنجبيني ما زاد فرط الشوق عندك إلا أضعافًا مضاعفة، ولما طالتني رصاصة عابرة لم أترك حضنك فارغًا بل أودعته ريحانة قلبي ضياء.

أزهرتُ كـــــ"فسيلة نخلٍ" في العشرين يُشاد بطولي السامق بين العابرين، وعيناي اللوزيتان أسرتا ابن عمي ماهر وأوقعتاه في شِباك غزلهما، فما كان لكِ ولوالدي الودود إلا أن تقولا سمعًا وطاعة لقلبين ينبضان حُبًّا، ذاك الماهر الذي فتحت عيني فوجدت اسمي كُتب على اسمه.

شهرٌ واحد مر على زواجي ثم بدأت نطفة ضياء تنبت في رحمي، فجئتك أشتكي الإعياء، لكنكِ باغتِّني بالمباركة والدموع تغالب إشراقة ضحكتك، وأنا أتساءل: "أماه، بالله أتباركين مرضي؟!"، فكان جوابك: "بل حملك يا حبيبتي، إنها إشاراته"، وبدأت تسردين عليّ يوم أن فاجأتك أعراض بُشراكِ بي بعد عشر سنواتٍ من الشوق والتمني والدعاء والترجي، وكيف كان حملًا طبيعيًّا دون زيارة طبيب إلا طبيب القلوب الذي وهبكما إياي من غيرِ حول لكما ولا قوة، فكنتُ "المنى"، فكبرتُ أمام أعينكم وحدي لا يرد صدى صوتي في أرجاءِ البيت إلا صوتكما.

عشقتُ الصغار صوتهم وضحكتهم وحركاتهم وأعينهم، ولمّا أن رزقني الله ضياء جاء كالبلسم لقلبي ولروحكِ "يا جدَّته"، أتأمل طول أصابعه، وأتخيله شابًّا يافعًا يحجب طوله عين الشمس، كنتَ _يا ضياء_ بحركاتكِ الشقية تُعلق قلبي وأنت لم تزل ثلاثة أشهر، تحاول جاهدًا أن تحبو كسمكةٍ صغيرة لتحصل على الدمية التي تبعد عنك بضعة أمتار.

أطيرُ فرحًا بأصواتِ مناغاتك، ويرف خافقي إذا انفرجت أساريرك برؤيتي؛ فأهرول لأمي أخبرها بكل حركةٍ جديدة تفعلها فتعزف أوتار روحي إثرها، إلا أن فرحة كل منا بالآخر لم يُكتب لها أن تكتمل، وتلك الفراشة المُلونة قطعوا جناحيها برصاصةٍ واحدة، وقد تتساءل عما حدث، ولكن لا تُتعب روحك بالأسئلة يا صغيري، فأمك الحنون راحت ضحيةً لأحداثِ الانقسام المؤسفة قبل عشرة أعوام.

كُنت وحيدة والديّ ورويت ظمأ انتظارهما عمرًا من الصبر، وكنتَ أنت وحيدي وبكري وعنقود فرحي، فكيف صوبوا نيران أسلحتهم تجاه وحيدين بريئين؟!، وكيف أذنت لهم إنسانيتهم أن يدعوا الحليب "يتصلَّب" في صدري؟!، وتركتك _يا ضياء_ وديعة لأبيك وأمي، ورحلت برفقة الرحمن، وبقيت على مسمعٍ مني ومرأى.

ورأيتُ كيف أغدقَّ عليك والداي الباران بي بعد موتي بالهدايا والألعابِ، من القطار الأسود الكبير إلى العربة الأرجوانية الجميلة، والطائرة البيضاء ذات الجناحين، والعديد من الصناديق التي تغلّفها أمي وتحتفظ بها داخل خزانتها القديمة، مع ما يغزوها من غبارٍ الآن، فقدما جدتك السبعينية المتورمتان لم تعودا تقويان على توضيبها من جديد.

ولمّا أن رحلتُ عنك وأنت ابن خمسة أشهر سرعان ما اختلطت رائحتي في ذاكرتك برائحة أمي، التي كلما ناديتَها: "ماما" حملتكَ بين ذراعيها، وأشارت إلى صورتي التي تتخذ من جدار بيتها مأوى لها، قائلة: "هذه أمك"، "هذه ماما منى"، هل شعرت حينها بنبضات قلبها المحترق وأنفاسها المتسارعة؟، أنا شعرت.

بإتمامك عامك الأول قرر الجميع أن يُعدوا لأجلك حفلًا كبيرًا تزدان مائدته بالكعك والحلويات والمشروبات ما لذ منها وما طاب، وفي لحظة لم ينتبه إليك أحدٌ فيها تسلقت الأريكة ثم أسقطت صورتي المُعلقة وأخذت تجري بها وأنت تردد بتعثرٍ: "ماما"، فما كان منهم إلا أن وضعوها منتصف المائدة والدموع تغسل قلوبهم قبل عيونهم.

قل لي ما أخبار فانوسك الأبيض المضيء بالأحمر والأزرق الذي يملأ بموسيقاه المكان؟، أما زلت تلعب به في رمضان أم أنك كبرت الآن؟، أتُراكَ غدوت أكثر صبرًا على الصيام من سنواتك الأولى هذه الأيام؟، أعرف أنك تسأل عن جدك الذي يرافقني الآن؛ فلم تكن قامتك الصغيرة تفارق قامته وأنتما تذهبان لأداء صلاة التراويح.

امسح دمعتك المتسللة خِفية يا صغيري وعيناك تتأملان صوري، التي تُجيد البحث عنها في مخابئ أمي التي تحبك كما لو كنت ابنها لا حفيدها، ولا تُغيبني عن دعواتك سِرًّا وجهرًا؛ فإن روحي تظلل حلمك وحضن جدتك يدفئ بردك.

اخبار ذات صلة