ليست المرة الأولى التي ينجح فيها أسرى فلسطينيون بالهروب من سجون الاحتلال وزنازينه، لكنّها على الأرجح المرّة الأكثر إثارة وتعقيدا وتخطيطا محكما ومعقدا، كما أنها الأكثر إحراجا لسلطات الاحتلال التي تحاول عادةً ترويج أن معلوماتها مطلقة وشاملة، وإجراءاتها دقيقة وصارمة، وأن تفوّقها على الفلسطينيين أمر بديهي، لا يحتاج نقاشا ولا يمكن الشك فيه.
تثبت عملية الهروب الشجاع، مع أن نتائجها غير واضحة بعد، أن الحرية هي قدر المناضلين، والأسرى منهم خصوصا، وأن الأسرى هم أساسا طلاب حرية وروّاد حرية، سجنوا من أجل حرية شعبهم، وهم يستحقون أفرادا هذه الحرية لأنهم خلقوا لها، وأن بوابات السجن لن تغلق إلى الأبد على المناضلين، فهم سوف يتحرّرون عاجلا أو آجلا إما في صفقة تبادل، أو هروب شجاع كهذا الذي تمّ فجر السادس من سبتمبر/ أيلول عام 2021، وأن التفكير في الهروب من السجن هو أبسط الأشياء وأكثرها منطقية.
التدقيق في هويات الأسرى وسيرهم يكشف مؤشّرات ذات دلالات كبيرة، فخمسة منهم ينتسبون لحركة الجهاد الإسلامي وواحد إلى حركة فتح، أي أن إرادة الحرية وسرّها العميق أقوى من أي اختلاف سياسي أو تباين تنظيمي أو فكري بين المناضلين. بعض الأسرى معتقلون منذ أكثر من ربع قرن، وبالتالي ظل الهروب الفردي الخيار الواقعي بالنسبة لهم، حيث لم تفلح كل المحاولات السياسية والصفقات في تحريرهم، لا سيما وأن معظمهم محكومون بالسجن المؤبد ومدى الحياة.
وتثبت عملية الهروب أن التحضير لها استغرق وقتا طويلا جدا، أشهرا طويلة وربما أكثر من عام أو عامين (آخر اعتقال للأسير زكريا الزبيدي كان في 2019)، فليس لديهم أدوات حفر، لا فؤوس ولا مجارف ولا شيء من هذا القبيل، وإنما ما يمكن أن يحصلوا عليه بعد جهد جهيد من ملاعق طعام أو مسامير أو غير ذلك من أدوات بسيطة.
وعمليات حفر من هذا القبيل تحتاج إلى دقة كبيرة وتخطيط محكم، لكي تنجح، فهو عمل يشبه عمل النّمل في الدقة والصبر وطول البال ومستلزمات التعاون والرقابة وإخفاء الآثار، لأن عليهم ألا يلفتوا انتباه أحد من الحرّاس، ولا حتى من زملائهم الأسرى الآخرين خلال عمليات الحفر. ومن أصعب مراحل العملية إخفاء التراب والمخلفات الناتجة عن عملية الحفر، وشقّ طريق صحيحة للهروب منها، من سجن جلبوع الذي هو من أكثر سجون الاحتلال منعة وصعوبة وإحكاما في إجراءاته الأمنية.
النجاح في عملية الهروب الكبير، وتستحق هذه العملية فعلا هذا الاسم لانطباق اسم الفيلم الشهير عليها، هو نجاح في صراع ذكاء وإرادات بين مجموعة من الأسرى، حرمهم الاحتلال من كل شيء، باستثناء إرادتهم التي عجز عن مصادرتها، وسلطات الاحتلال مزودة بكل أدوات القمع والرقابة والبوابات الحديدية والإلكترونية، والبنادق والرشاشات والكاميرات والسلاسل والجنازير وطائرات الهيلكوبتر والكلاب البوليسية وفرق المشاة والمطاردة المتخصّصة وأجهزة الاستخبارات، وكل ما من شأنه أن يضمن لها السيطرة على الأسرى المعزولين.
تعيد عملية الهروب، بحد ذاتها، تسليط الأضواء على قضية الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، الذين لم تفلح كل عمليات السياسة في الإفراج عنهم، على الرغم من مرور أكثر من 28 عاما على توقيع اتفاق أوسلو، والوهم الذي يسود العالم بوجود عملية سلام. كما أن العملية تسلط الضوء على ظروف الأسرى ومعاناتهم ونضالاتهم، وعلى مكانة قضيتهم بوصفها قضية جماعية ضمن أجندة الحركة الوطنية الفلسطينية، لا سيما بعد تداعيات قضية الأسيرة أنهار الديك التي انتزعت قرار الإفراج عنها بعد الحملة الشعبية الواسعة الداعمة لها، والأسيرة الأم إسراء الجعابيص التي تعاني آلاما مبرّحة بسبب إصابتها وعدم توفر أبسط مقومات العلاج الطبي لها.
مؤكّد أن نجاح عملية الهرب بحاجة إلى مساعدة من الخارج، سواء في توفير بعض المواد، أو توفير دليل للحركة والطرق، أو تأمين أماكن اختباء وملاذ آمن ولو مؤقتا. وفي مواجهات كثيرة سابقة، نجحت سلطات الاحتلال في مطاردة الفدائيين والمقاومين وتصفيتهم أو اعتقالهم بسبب محدودية خيار الاختباء أو الاختفاء في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خصوصا في الضفة الغربية التي هي، في الحقيقة، مناطق مكشوفة ومستباحة لسلطات الاحتلال، كما في غياب الحاضنة الشعبية التي يمكن أن تساعد المناضلين. ويبدو أن المناضلين الستة حسبوا حساب كل شيء، وأعدوا انفسهم لجميع الاحتمالات.
الأسرى الستة: زكريا الزبيدي، ومحمود عبد الله عارضة، ومحمد قاسم عارضة، ويعقوب محمود قادري، وأيهم نايف كممجي، ومناضل يعقوب نفيعات، هم أقمار فلسطين ونجومها الساطعة، لهم كلّ الحبّ والاعتزاز، ويستحقون من الشعب الذي ضحوا من أجله كلّ الدعم والوفاء والمساندة.