شهدت القضية الفلسطينية منذ ولادتها عشرات الشخصيات الثائرة التي رسمت ملامح التاريخ الفلسطيني والعربي في منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط، ومن هؤلاء رسَّام كاريكاتير استطاع أن يوقف الزمن ويتنبأ بموته قبل أن يغتال عام 1987م.
إنه ناجي العلي مجسد الشخصية الكاريكاتورية "حنظلة"، التي تجسد شخصية طفل وُلِد في العاشرة من عمره، وهو عمر ناجي عندما هُجِّر من قريته "الشجرة" في الجليل الأعلى الفلسطيني عام النكبة (1948م) مع أسرته إلى مخيم عين الحلوة في لبنان.
وما إن شب جسده وتفتحت قريحته حتى وقع أسيرًا بين يدي الاحتلال الإسرائيلي، بسبب نشاطه في الجنوب اللبناني، وهناك بدأ يترجم أفكاره على شكل رسومات ساخرة على جدران السجن، وهو ما فعله حينما وقع سجينًا لدى الجيش اللبناني فيما بعد، لتتضح ملامح موهبته اللاذعة، التي اكتشفها الصحفي الفلسطيني غسان كنفاني عندما شاهد رسوماته على جدران مخيم عين الحلوة.
أربعون ألف رسم كاريكاتوري لاذع انتقد عبرها القيادات الفلسطينية آنذاك (منظمة التحرير) والأنظمة العربية، وتنبأ بمستقبل القضية وحالة الترهل والضعف العربيين، وغضب من موجة التطبيع العربي في سبعينيات القرن الماضي مع الاحتلال الإسرائيلي، فكتّف يدي حنظلة للتعبير عن رفضه ما يجري، وأقسم أن يظل حنظلة ابن الأعوام العشرة في العمر ذاته إلى أن يعود إلى فلسطين، مصممًا على أن كل ما عاشه من ويلات وتهجير وفقر وسجن لن تُحسب من عمر حنظلة، فعمره عمر الوطن الحر الذي لا يعرف معنى الاحتلال والإحلال واغتصاب الأرض.
وفي وقت مبكر جدًّا وعى ناجي العلي أن مسار المفاوضات بائس وباطل، وأن الاحتلال لن يمنح الفلسطينيين دولة، مهما طال الزمن، لكن السلطة الفلسطينية لا تزال تراهن ناجي العلي على المفاوضات، التي توقفت عام 2014 لعدة أسباب، منها رفض الاحتلال إطلاق سراح معتقلين قدامى، ووقف الاستيطان؛ وعلى وهم الدولة حتى بعد وفاته بـ34 عامًا.
وكان العلي يعي تمامًا أن تلك الخطوط السوداء التي يرسمها على الورق أرقت الأنظمة العربية كما أرقت الاحتلال الإسرائيلي بسبب رواجها وشعبيتها بين الشعوب العربية، وبساطتها في تلخيص الخيبات السياسية التي ألمت بالقضية الفلسطينية والأنظمة العربية، التي بدلًا من أن تعمل على تحرير فلسطين هرعت إلى التطبيع السري من جهة والعلني من جهة أخرى؛ ستكون سبب موته في يوم من الأيام، وهو ما صرح به يومًا قائلًا: "اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله: ميت".
وبالفعل بعد تنقله بين عدد من الدول العربية -خاصة الكويت ولبنان- انتقل إلى بريطانيا للعمل مع صحيفة القبس الكويتية الدولية، حيث باغته "مجهول" بعدة رصاصات اخترقت جسده في تموز 1987، لتُعلن وفاته رسميًّا بعد 37 يومًا من محاولات استشفائه.
ورغم ولادة عشرات الرسامين الفلسطينيين والعرب لا يزال إرث ناجي العلي منارة يستأنس بها رسامو الكاريكاتير، كما يستأنس بها المثقفون العرب والسياسيون لمعرف الواقع السياسي الفلسطيني والعربي كيف كان في تلك المدة، وما موقف ناجي العلي منها، أما حنظلة فسيبقى مشردًا غاضبًا وعاقدًا الحاجبين إلى أن يعود إلى فلسطين الحُرَّة.