هُزمت أمريكا في أفغانستان، هذه حقيقة لا جدال فيها، وقد أكدتها الوقائع المهينة للجيش الأمريكي على الأرض، وطريقة الهروب المذل لعشرات آلاف الجنود، وحفائهم من عملاء أفغان، ومتعاونين من مختلف الجنسيات، وجدوا أنفسهم مكشوفين بلا ظهر، وبلا نصير.
هزيمة أمريكا الميدانية على أرض أفغانستان لا تعني نهاية الحرب، ولا تؤكد خلاص الشعب الأفغاني من التآمر الأمريكي والغربي على هذ البلد، فللحرب أوجه عدة، وما عجزت عنه أمريكا من خلال الطائرات الحديثة والصواريخ والقذائف، قد تستعين في سبيل تحقيقه بوسائل أخرى أقل تكلفة، وأكثر جدوى، فالتحكم عن بعد في مسار الأحداث على الأرض الأفغانية قد يعيد بعض الكرامة لشرف أمريكا العسكري الذي تمرغ في الوحل، وللمخابرات الأمريكية خبرات متعددة في هذا المجال، فما تعجز عنه وسائل الحرب بشكل مباشر، قد ينجح به التآمر.
إن تحرر الشعب الأفغاني من الغزو الأمريكي لا يعني أن مستقبل هذا الشعب قد بات آمناً، فمصلحة أمريكا الإستراتيجية والعدوانية تأبى أن ترى الشعوب متحررة، وترفض أن تعطي نصراً لأعدائها يعزز من قدراتهم على البناء. إن نجاح الشعب الأفغاني في تطوير قدراته، وإقامة دولته، ليشكل أكبر إهانة للسياسة الأمريكية، ولا سيما إذا طالب الأفغان بالتعويض المالي والإنساني عما لحق بهم من دمار على يد الجيوش الأمريكية، والغزاة لن يعترفوا بالخطيئة، بل على العكس، ستواصل أمريكا التآمر على الشعب الأفغاني، لتشغله بنفسه، وذلك من خلال:
1ـ تشجيع الحرب الأهلية داخل أفغانستان نفسها، ودعم أي تحرك قبلي أو طائفي أو عرقي ضد حركة طالبان، وذلك بهدف إظهار النموذج الفاشل لحكم الإسلاميين.
2ـ تشجيع الانفلات الأمني، وخلق حالة من عدم الاستقرار، بحيث لا يشعر المواطن الأفغاني بالفرق بين الحياة في ظل الاحتلال الأمريكي، والحياة في ظل التحرر منه، وقد يكون استنكاف بعض الموظفين، وعدم عودتهم لوظائفهم جزءاً من هذا الانفلات، ولقطاع غزة تجربة مشابهة في ذلك، حين استنكف عشرات آلاف الموظفين عن العمل، بأوامر من عباس، بهدف إفشال تجربة حركة حماس في الحكم.
3ـ شن الحروب الإعلامية الخبيثة على حركة طالبان، واتهامها بالتطرف والإرهاب، وفرض المقاطعة الدولية، مع التشكيك بقدرة طالبان على حفظ النظام والأمن، والطعن بقدراتها على تطوير البلاد، التي سينحدر مستوى المعيشة فيها إلى الحضيض، مع الافتقار إلى الدعم الدولي.
4ـ العمل على خنق الشعب الأفغاني من خلال الحصار، وتجفيف الموارد، كأسهل طرق للتحريض على حركة طالبان، وتحميلها مسؤولية كل انهيار، أو تأوُّه أفغاني لا يجد العلاج، وقد لا يجد الوقود وغاز الطهي في لحظة، وقد تكون التجربة المريرة التي يعيشها الشعب اللبناني نموذجاً للتآمر الأمريكي على مستقبل البلد، وقد جربت غزة بمرارة هذا العقاب الوحشي.
5ـ التجويع، وهي سياسة أمريكية معروفة، وتفيد التقارير بأن أفغانستان تتعرض لموجة جفاف غير مسبوقة، وأن واحداً من ثلاثة أفغان يعاني من نقص الغذاء، وهذا نتاج الغزو الأمريكي، ولدولة الكيان الصهيوني تجربة خبيثة في تطبيق سياسة التجويع على أهالي قطاع غزة، والسياسة نفسها تمارسها قوى العدوان ضد أهل اليمن والسودان وغيرهما من بلاد العرب.
6ـ تفجير الصراعات الإقليمية، والتحريض ضد أفغانستان، والتهويل من تطلعاتها، وتحريض أفغانستان نفسها على دول الجوار، بهدف إشغال المنطقة بحالها، وإرباك استقرارها.
إن ملخص السياسة الأمريكية تجاه أفغانستان يقول للأفغان: ما دمتم تؤيدون طالبان، وما دامت حركة طالبان تحسن فن القتال، وتحقق الانتصار، فالقرار الأمريكي هو تسليم بلاد الأفغان لطالبان، وتركهم يجوعون من حصار مشدد، حتى يكفر الأفغان أنفسهم بحكم طالبان.
وحتى لا تظل أمريكا صاحبة الكلمة العليا على أرض أفغانستان، وحتى لا تدير المعارك بين شعوب الشرق من خلال التحكم عن بعد، على دول الجوار أن تنتصر لأفغانستان، وأن تتكاتف فيما بينها لبناء أفغانستان الحرة الموحدة المستقلة المزدهرة، فتجويع الشعوب وإفقارها صناعة أمريكية محضة، وهذا هو سلاح الإبادة الجماعية، وهو الإرهاب الحقيقي الذي يمارسونه ضد شعوب المنطقة، فأمريكا تسعى إلى استنزاف مقدرات الشرق، وتضع مستقبلهم في عين العاصفة، والأطماع الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة لا تستثني شعباً ولا عرقاً ولا طائفة، وتتآمر على كل تجمع بشري يمثل نهوضُه انهياراً لأطماع الغزاة.