امتلأت كل المقاعد الدراسية في أحد صفوف مدرسة القاهرة الأساسية بالطالبات اللواتي ارتدين ملابس وحقائب جديدة، بقلوبٍ يملؤها التفاؤل والعزيمة تطير معها ضحكاتهم مثل فراشاتٍ، إلا مقعدًا دراسيًّا ظلَّ فارغًا لأن صاحبته سلكت طريقًا آخر، إذ زينت صورة الشهيدة يارا الكولك مقعدها، وجدران حائط الفصل، لتذكر بجريمة الاحتلال التي طالت 66 طفلًا.
في الصورة طفلةٌ قمحية تشقُ ابتسامتها الطريق بين زميلاتها، وحده طيفها سيرافق صديقة مقعدها الدراسي في الصف الرابع حلا غزال التي تبحرُ في شخصيةِ صديقتها الشهيدة: "كانت يارا حنونة طيبة، دائمًا تأتي في اليوم الأول سعيدة ببدء العام الدراسي، كانت تحب الدراسة كثيرًا".
رفضت حلا الجلوس بجوار صورة يارا لأنها "لن تحتمل إدارة رأسها دون أن ترى ابتسامة يارا مرة أخرى، ولا تحتمل أن تنظر إلى مقعد فارغٍ".
رفيف.. الرسامة الصغيرة
في فصل آخر.. غابت ضحكة الشهيدة الطفلة رفيف أبو داير الطالبة في الصف الخامس، ولم يبقَ من أثر رفيف سوى صورة تذكر بها على مدخل فصلها الدراسي، وأخرى معلقة على مدخل منزلها كملاك حارس لزميلاتها ومعلماتها اللواتي افتقدنها في العام الدراسي الجديد.
كانت الطفلة تنظر إلى المستقبل الذي لم تعرف منه سوى أحد عشر عامًا، لم يكتمل حلمها بأن تصبح مهندسة كأختها الكبيرة ورسامة في الوقت نفسه، إذ عشقت الألوان ورأت في ورقة الرسم مساحة واسعة لسكب حبها للحياة.
في اليوم الأول للدراسة، دخلت حلا البكري إلى الصف السادس ورائحة الفقد ترافقها، فقد تركت "رفيف" مواقف كثيرة تذكرها بها داخل أسوار المدرسة، فلن تقدم لهم الرسومات بعد اليوم، ولن تجلسا معًا على المقاعد في ساحة الاستراحة، ولن تسمع صوتها وهي تقدم لها مفاجأة جميلة "هاي الرسمة هدية مني الك".
في عيني حلا حزن عميق وجرح نازف لم تستطِع إخفاءه: "رفيف صدقيتي، يفترض أن تأتي لتتسلم الشهادة كأي طالبة، لتجلس معي لنضحك ونلعب ونعيش لحظات حلوة ونحن نصعد من سنة إلى أخرى (...) كان طموحها بأن تصبح رسامة".
تستحضر بعضًا من هدايا رفيف لها: "أذكر أنها أهدتني رسمة لقلبٍ عبرت فيه عن حبها لي".
أبرقت عينيها بدموعٍ حاصرت حوافها، تعود إلى لحظة معرفتها لخبر استشهاد صديقتها: "جاءتني أمي تستفسر عن اسم طالبة بمدرستي بعدما نادت عليَّ خلال أيام العدوان: "حلا.. بتعرفي بنت اسمها رفيف"، فحدقت بأمي أستغرب: مالها رفيف، فأصابني كلامها في قلبي: بحكوا شهيدة".
تفرد حلا ذراعيها متحسرةً على رحيل صديقتها: "بأي ذنب قتلت رفيف وهو تجلسُ بحضن والديها".
وإلى جوار حلا، تقفُ دانا عرفة صديقة رفيف الأخرى والتي علمت بنبأ استشهادها قبل شهر فقط من مضي ثلاثة أشهرٍ على انتهاء العدوان الإسرائيلي على غزة في مايو/ أيار الماضي، لأن بيت دانا الملاصق لبرج الجوهرة تضرر، أما أخبار فقد الأحبة والأصدقاء فلم يكن في حسبان تفكيرها الطفولي.
تنظرُ إلى ساحة المدرسة تشير نحو الأماكن التي كانت تجلس بها برفقة رفيف حيث تلعبان معًا، تستحضر ما كان يدور بينهما من حوار، رافق صوتها تنهيدة حملت كل الألم المخزن داخل قلبها: "كنا نجلس على المقاعد نحكي عن حياتنا وطموحاتنا، وشو بتعمل لما ترجع على البيت (...) بتذكر مرة أهدتني رسمة لحديقة وطيور بجوار بيت".
رفيف التي كانت تستعد لإيقاد شمعتها الثانية عشرة من عمرها كانت تلهو وتلعب في حديقة منزلها مع إخوتها الصغار وهي توشكُ على استكمال رسمة للدمار الذي طال عائلة صديقاتها بعائلة أبو العوف، لكن وفي أثناء الرسم طالت الصواريخ الإسرائيلية عمارة بجوارهم وتطايرت الحجارة والردم والشظايا إلى جسد رفيف وعرجت روحها نحو السماء وانضمت إلى شهداء تلك الرسمة.
صورة للذكرى
وفي زاوية أخرى من المدرسة، تزين مدخل المرحلة الأساسية الثالثة بصورة الشهيدة دانا اشكنتنا، تظهر دانا مبتسمة لتذكر مربية فصلها وفاء صالح بهدوء طفلة تركت أثرًا في نفسها.
تركت المُدرسة الفصل ووقفت قبالة الصورة تتأمل ملامح دانا: "افتقدتها كثيرًا لأنها استشهدت مع أمها وإخوتها الثلاثة ولم تبقَ إلا شقيقتها سوزي، دانا قصة تروي لك الوجع الذي حل بنا".
في زاوية أخرى من المدرسة حيث الفصل الرابع (2)، ترقرقت الدموع في عيني ريم اسليم عندما سألنها عن صديقتها دانا.
تقول بحزن وهي تقفُ على أطلال ذكريات عاشتها مع دانا في اليوم الأول للمدرسة: "زعلت اليوم لأني لم أجدها، تمنيت رؤيتها، فكنا نلعب في فترة الاستراحة ونبقى طوال السنة بجوار بعضنا".