إستراتيجية الدول تتحدد أولًا بوضع قدراتها في موازين القوى، ثم ثانيًا بوضعها الجيو- سياسي؛ فالذي يقود الدول هي إستراتيجية الدولة وسياساتها، الأمر الذي يوجب دحر المصلحة الاقتصادية المباشرة لحساب أولويات الإستراتيجية.
وهذا ما جعل أمريكا -مثلًا- تضحي عشرات السنين بمصالحها الاقتصادية مقابل الإستراتيجية التي اقتضت محاصرة الصين ومقاطعتها، وهو ما يتكرر الآن أمريكيًّا بالعقوبات بإنزال خسائر بالاقتصاد الأمريكي فيما يتعلق بمصالحه في إيران وروسيا والصين ودول أخرى، لحساب مقتضيات الإستراتيجية.
على أن إدارة هذه المعادلة ما بين الإستراتيجية العليا والمصالح الاقتصادية الآنية راحت تواجه أمريكا معضلةً في إدارة الصراع ما بعد انتهاء مرحلة الحرب الباردة، بسبب الفارق الذي حصل في ميزان القوى بين مرحلة الحرب الباردة التي امتدت 45 سنة من جهة، والمرحلة التالية التي امتدت حتى الآن ثلاثين سنة.
ارتبكت الإستراتيجية الأمريكية في تحديد أولوياتها الإستراتيجية، عندما توهمت طوال التسعينيات والعشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين أنها أصبحت الدولة الكبرى الوحيدة، أو الدولة الأكبر والقطب الأوحد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتضعضع توازن الدول الأخرى: انهيار روسيا، وانهيار عدد كبير من الدول الاشتراكية، وارتباك الوضع الصيني، وتفكك حركة عدم الانحياز، ثم التصور الأمريكي في عهد كل من بيل كلينتون وجورج دبليو بوش أن بالإمكان إعطاء الأولوية لإعادة بناء "الشرق الأوسط" ضمن الرؤية الأمريكية- الصهيونية، الأمر الذي أثبت فشله وسوء تقديره للموقف ولموازين القوى، لا سيما في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين.
فمن جهة لم تلحظ العين الأمريكية ما يحدث في إيران من بناء وتطوير، ولم تلحظ تصاعد المقاومة الإسلامية في كل من لبنان وفلسطين والعراق، ولكن الأخطر عليها أنها لم تدرك ما يعنيه مشروع بوتين في وقف انهيار روسيا، وإعادة بناء الدولة الروسية الصاروخية النووية ذات الإمكانات العسكرية الهائلة، ولم تلحظ بالقدر الكافي خطورة انفتاح الصين على كل أسواق العالم، وتطويرها اقتصادًا وتكنولوجيا مدنية وعسكرية هائلة، وذلك لحساب الغرق في مخططات المحافظين الجدد الصهاينة لبناء "شرق أوسط كبير"؛ يصل إلى أفغانستان بعد احتلالها واحتلال العراق.
حتى الفشل الخطر الذي مُني به الكيان الصهيوني في حرب تموز (يوليو) 2006 في لبنان، ومن قبله هزيمة الانسحاب المذل، بلا قيد أو شرط، من جنوبي لبنان، لم يفعلا فعلهما أمام الغطرسة والغرور الأمريكيين، أضف إلى ذلك تزعزع الاحتلالين الأمريكيين أمام مقاومتين صاعدتين في العراق وأفغانستان، ثم لم يلفت انتباههما جيدًا دخول اتفاق أوسلو في طريق التعثر والفشل، مع تصاعد مقاومة حماس وحركة الجهاد الإسلامي، وانطلاق الانتفاضة الثانية في فلسطين، وأخيرًا وليس آخرًا هزيمة الكيان الصهيوني في حرب 2008/2009 في قطاع غزة، وتحوّل القطاع إلى قاعدة مقاومة مسلحة خطرة.
كل ذلك قرأه المحافظون الجدد أنه "فوضى خلاقة"، فيا للهول، هل هنالك من يمجّد فوضى تقع في المناطق التي تعد تحت سيطرته الإستراتيجية والعسكرية؟!
هنا يمكن الحديث عن إستراتيجية فقدت بوصلتها وأولوياتها وحُسْن تقديرها لموازين القوى والموقف، وهي عماد السياسة والمستقبل والمصالح بأبعادها المختلفة، لقد فقدت كل ذلك، وهي في أعلى مراتب القوة والسيطرة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، وجلوس أمريكا على سدة "القطب الأوحد" في حكم العالم.
جاءت العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين لتجد أمريكا نفسها أمام عالم متعدد الأقطاب الدولية والإقليمية: الصين، وروسيا، وأوروبا، والهند، واليابان، وتركيا، وإيران، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، ولتجد نفسها أمام مقاومة متصاعدة في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين، وبروز قطبين إقليميين كبيرين عندنا (إيران وتركيا)، مع تداعٍ ملحوظ في قوة الكيان الصهيوني ومكانته، لا شك مع ملاحظة انهيار مريع للنظام العربي، وبروز حالة هرولة مَرَضية في التطبيع مع الكيان الصهيوني، دخلت الآن في مرحلة الاختناق.
أمام هذه التطورات غير المحسوبة، التي يمكن أن تسمى "الفوضى الخلاقة"، في غير مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني، دخلت إدارة كل من باراك أوباما ودونالد ترامب -مع الفارق الشديد بينهما- في إستراتيجيتين فاشلتين زادتا أمريكا ضعفًا وارتباكًا، وعظمتا أدوار وقوى منافسيها ومعارضيها، حتى الحلفاء الطامعين بدور أكبر في المرحلة القادمة مثل أوروبا واليابان.
ولهذا تدخل الإستراتيجية الأمريكية في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، مع مجيء إدارة جو بايدن، المنشغلة في ترميم مخلفات ترامب داخليًّا، حيث تعمقت الانقسامات وتمكنت الأحقاد.
أما خارجيًّا فهي في حالة ارتباك، مع محاولة الحسم في إعطاء الأولوية الإستراتيجية لمواجهة الصين وروسيا، ولكنها حتى الآن لم ترسم خطة متماسكة في هذا الاتجاه، وكذلك في القضايا الأخرى الجانبية، وفي مقدمتها ما تسميه "الشرق الأوسط"، وذلك لأهمية مستقبل الكيان الصهيوني عندها.
ولعل التدقيق التفصيلي نسبيًّا لمفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي (خمسة زائد واحد) يقدم نموذجًا للإرباك الذي يواجه أمريكا في المرحلة الراهنة عهد جو بايدن، مطلع العقد الثالث في القرن الحادي والعشرين.
التوقف عند مفاوضات فيينا له دلالة أبعد من حدوده ونتائجه؛ لأنه يمثل في الجوهر الصراع بين "محورين" في المنطقة العربية- الإسلامية (الشرق الأوسط الكبير)، وذلك من دون أن يعني تقليلًا من الصراعات الأخرى والمحاور الأخرى في المنطقة، لا سيما ما يتعلق بتركيا، التي تشكل القطب الثالث الكبير في المنطقة، مع إيران والكيان الصهيوني (وأمريكا، وروسيا، والصين لاحقًا).
ذهبت تعليقات سياسية معززة بتسريب معلومات ومخططات متوقعة للمنطقة إلى أن مفاوضات فيينا (ما بين أمريكا وإيران في ظل خمسة+ 1) حول النووي الإيراني ستنتهي إلى صفقة أمريكية- إيرانية كبرى، وراحت التصريحات الروسية وبعض الإيرانية توحي بأن العودة إلى الاتفاق النووي أصبحت قريبة جدًّا، لكن ما حدث حتى الآن أن مفاوضات فيينا ما زالت تدور حول نفسها، والسبب يرجع إلى الورطة الأمريكية في هذه المفاوضات التي حُدد سقفها بالموقف الإيراني، وذلك بحصرها في موضوع العودة إلى الاتفاق النووي بلا زيادة أو نقصان، أي تعود إيران إلى التخصيب المنخفض وتعود الرقابة الدولية المشددة، على حين تعود أمريكا إلى الاتفاق وترفع ما فرض على إيران من عقوبات، الأمر الذي يعني انتصارًا مقدرًا وكسبًا بارزًا لإيران وهزيمة مدويّة لأمريكا؛ لأن المشكلة الحقيقية ليست في العودة إلى الاتفاق النووي، وإنما، عند أمريكا والكيان الصهيوني، بتصفية البرنامج الصاروخي الباليستي لإيران، وغيره من الأبعاد العسكرية والتقنية، كما تصفية محور المقاومة، أو قل كما تسميه أمريكا والكيان الصهيوني: دور إيران خارج حدودها، لا سيما في فلسطين ولبنان (دعم المقاومة فيهما).
من هنا إن توقيع اتفاق نووي، وترك هذه المشكلة الحقيقية تمضي على رسلها يعنيان أن أمريكا والكيان الصهيوني في حالة هزيمة مدوّية، على أن تعثر مفاوضات فيينا أو ترك الوضع القائم (الصراع الدائر) مستمرًّا يعنيان أن أمريكا ستبقى غارقة إلى أذنيها في المنطقة، ما سيؤثر سلبًا "جدًّا" في أولويتها الإستراتيجية في مواجهة الصين وروسيا. وهذا لا يقل إضرارًا بأمريكا عن توقيع الاتفاق النووي؛ لأن الأولوية الإستراتيجية يجب أن تُعطى لمواجهة الصين التي تُهدد كامل الهيمنة العالمية لأمريكا وللحضارة الغربية على العالم، على حين التهديد الآخر محصور، في المدى المتوسط على الأقل، في مستقبل الكيان الصهيوني ووجوده.