بخلاف التقديرات الإسرائيلية؛ أطلق (حزب الله) صليات من الصواريخ باتجاه الأهداف الإسرائيلية، وكان هذا الإطلاق مفاجئًا وصادما لقيادة الاحتلال بمستوياتها "السياسية والأمنية"، لأن جميع تقديراتها كانت تشير إلى أن الحزب غير قادر على الرد على القصف الأخير للأراضي اللبنانية، وذلك نتيجة تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية التي يمر بها لبنان، والتي وصلت لمراحل خطرة ومتدهورة.
لكن الرد اليوم جاء مخالفا لكل التقديرات الاستخبارية الإسرائيلية، وتم بتكتيك محسوب و"مدروس بعناية"، بحيث وُجِّهت الصواريخ لمناطق فارغة وأهداف في محيط المواقع العسكرية، ورُوعيت نوعية ومديات الصواريخ بحيث تكون عملية الرد في حدود الأراضي اللبنانية المحتلة، ومن ثم أعلن حزب الله هذه العملية ببيان رسمي يتبنى فيه إطلاق الصواريخ، ويوضح الهدف من هذا الإطلاق، وظروف هذه العملية في هذا التوقيت.
واللافت هو إعلان حزب الله مباشرةً وقوفه خلف عملية إطلاق الصواريخ صباح الجمعة، على الرغم من قدرته على إطلاق الصواريخ (بواسطة القفازات) والتزام الصمت والتهرب من المسؤولية أمام الاحتلال وأمام المكونات السياسية اللبنانية، ومن ثَم البقاء بعيدا عن الضغوط وعن الاستهداف المباشر وإيصال رسالته بوسيلة مختلفة، لكن هذه المرة يبدو أنه قاصد هذا الفعل لاعتبارات مختلفة منها:
أنه من غير المسوح بعد اليوم تجاوز "الخطوط الحمراء" من قبل الاحتلال، وأن حزب الله ما زال حاضرا وبقوة على الجبهة الشمالية وما زال قادرا على تثبيت معادلة القصف بالقصف، وأنه مستعد للرد على أي عدوان إسرائيلي بصورة قوية وفعالة على الرغم من كل التحديات الداخلية في الوضع اللبناني، وأنه يريد إفهام الحكومة الإسرائيلية الجديدة أن محاولات العبث والاستعراض في الجبهة الشمالية هي بمنزلة اللعب بالنار، وأن أي قصف إسرائيلي بعد الآن سيواجه بقصف صاروخي.
وهذا ما جعل قيادة الاحتلال الإسرائيلي تتراجع خطوة للوراء خشية الانزلاق في مواجهة خطرة على الجبهة الشمالية في ظل ظروف صعبة يعيشها الكيان الإسرائيلي، خصوصا بعد تشكيل حكومة "ضعيفة وغير متجانسة"، واستمرار الأزمات السياسية، وارتفاع وتيرة الانتقاد والمعارضة لهذه الحكومة من قبل رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو.
فضلا عن التحديات الصحية، والاقتصادية، وعجزها عن وضع حل للتهديدات المستمرة في غزة، وسوريا، ولبنان، وأيضا رغبتها في التفرغ للتحدي الإيراني وهو التحدي الاستراتيجي الأكبر في مياه الخليج العربي، خصوصا بعد الاستهداف الأخير لأحد السفن التي تعود ملكيتها للاحتلال الإسرائيلي.
وعليه؛ فإن ذلك دفع قيادة الجيش والمستوى السياسي لاحتواء الموقف والرد بشكل محسوب في مناطق فارغة عبر قذائف المدفعية والتصريح بأن الجيش لا يرغب في التصعيد ولا مصلحة في تحويل المنطقة الشمالية لساحة مواجهة في هذا التوقيت، هذه الرغبة الإسرائيلية تتقاطع تماما مع الرغبة والتوجهات لدى الحزب الذي يرى أن العملية انتهت والرسالة وصلت ولا حاجة لتصعيد الموقف.
لذلك فإن الطرفين سيحاولان استثمار ما جرى لتسويقه بطريقته على أنه إنجاز سياسي وميداني مهم، فحزب الله سيجد ذلك فرصة وهو يستعد لعرض خطاب مرتقب للسيد نصر الله الذي سيقدم هذا الفعل المقاوم على أنه مكسب كبير للحزب، لكونه استطاع أن يستهدف الأهداف الإسرائيلية ويثبت هذه القواعد بصورة مباشرة على الرغم من الوضع اللبناني الداخلي الصعب والكوابح التي تقف في وجهه.
و(إسرائيل) ستسعى لخداع الرأي العام الداخلي وإيهام الأحزاب السياسية بأن ما حدث هو إنجاز كبير خصوصا أن لدى الاحتلال تفسيرات لسلوك وتصرف حزب الله ميدانيا بأن قيامه بإطلاق الصواريخ في مناطق فارغة وفي محيط المواقع يعكس حجم الردع الذي حققه الجيش في جولات سابقة، وأن (إسرائيل) استطاعت الرد في وقت سابق على إطلاق صاروخي مجهول، وكذلك ردت على الإطلاق الصاروخي صباح الجمعة بقصف عنيف في مناطق متفرقة على الحدود مع لبنان.
لكن وعلى الرغم من هذه المعطيات فإن هذه الجبهة ستبقى غير مستقرة وقابلة للاشتعال في حال تخطى أي من الطرفين الخطوط المعروفة، واخترق القواعد الثابتة عبر شن هجمات صاروخية على أهداف استراتيجية، وتسبب بخسائر بشرية، فإن ذلك سيكون عاملا مفجرا للموقف، وبوابة للدخول في حرب شاملة بين حزب الله والاحتلال الإسرائيلي.
وإذا ما حدثت فإنه يُتوقع أن تكون غير مسبوقة وكارثية على الجبهة الداخلية للاحتلال، التي لم تتعافَ بعدُ، خصوصا بعد تعرضها لمئات الصواريخ من قبل المقاومة الفلسطينية في معركة (سيف القدس) قبل عدة أشهر، التي أظهرت ضعف منظومة الدفاع، وبينت مدى هشاشة وانكشاف الجبهة الداخلية، وأثبتت عجز الاحتلال عن التصدي للصواريخ، وفضحت كل خططه الهلامية التي تبخرت تحت لهيب الصواريخ.
وختاما، فإن الفشل الإسرائيلي في النواحي الاستخبارية يتكرر اليوم ويتجسد مرة أخرى في الجبهة الشمالية بعد أن تفاجأ الاحتلال بالقصف الصاروخي في ظل عدم توفر أي معلومة تؤكد ما ذهب إليه الحزب، وهذا ما يشابه تماما الفشل الاستخباري الذي سبق القصف الصاروخي للقدس من قبل كتائب القسام في المعركة الأخيرة، حيث لم يكن يتوقع الاحتلال بأي صورة أن المقاومة يمكن أن تذهب للرد بهذا المستوى.