هرعت إلى صورته المعلقة في صدر صالة استقبال الضيوف حينما وصلتها نتيجتها في الثانوية العامة، تطوق بذراعيها إطارها الخشبي، ترافقها تنهيدة متألمة تحملها أنفاسها، يرتج جسدها وهي تجهش ببكاءٍ طويل ودموع الفراق تتساقط بخفةٍ على زجاج الصورة، تقول له: "ها قد أوفيت يا أبي، وتفوقت".
تتأمل آية صورة والدها الشهيد محمد أبو شمالة القائد في كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، تنظرُ إلى ابتسامته المتوهجة بين إطار الصورة، لتعود بها ذاكرتها إلى الوراء حينما كانت في الصف الخامس الابتدائي لحظة استشهاده، تتذكر هداياه مع كل تفوق، وفرحته لها في كل مناسبة.
مسحت والدتها دموع ابنتها وهي تبارك نجاحها: "رفعتِ راسي وراس أبوكِ"، لتقابلها ابنتها بابتسامة هادئة، ويعلو صوت الزغاريد وأهازيج النجاح.
"أبي دائمًا موجود بقربي حتى وإن كان في دار الخلود، بالطبع الفقد موجع، وكانت أمنيتي أن يشاركني فرحتي كما يشاركُ الآباء فرحةَ أبنائهم، لكن هذا قدرنا نحن أبناء الشهداء، وعزاؤنا أنهم رحلوا في طريق الجهاد والمقاومة وأعطوا للوطن كرامةً قدرها يكفي لأن نعيش تحت ظل اسم أبي القائد".. تشعر بصدى أناتها في كل كلمةٍ التقطتها صحيفة "فلسطين" وهي تستمع إلى ابنة الشهيد التي حصلت على معدل 82.6% بالفرع الأدبي.
قبيل إعلان النتائج التفت العائلة حول ابنة الشهيد وهي في حالة توتر وقلق ولهفة لسماع النتيجة، وكومة مشاعر تجتاحها وأسئلة كثيرة تراودها، يتحرك المشهد في حديثها مرةً أخرى بعفوية: "كنت خايفة كتير يكون المعدل ضعيف، وشفت والدي في المنام قبل النتائج بليلة وكان يقرأ لي القرآن".
ما زالت ذاكرة "آية" تلتصق بمواقف والدها الشهيد: "لقد كان أبي حنونا، دائمًا يهتمُ بتحصيلنا الدراسي، ولأنه بارع بالخط العربي كان يعلمنا على دفاتر الرسم لتحسين خطنا، أتذكر يوم وعدني وأنا في الابتدائية: يا آية، إذا حصلتي على معدل عالٍ سأهديكِ هدية حلوة".
حصلت آية على معدلٍ عالٍ، وخشيت أن يكون والدها قد نسي هديته حينما اتصل على والدتها في يوم تسلمها شهادتها، ولم تدرِ أن الاتصال كان لأجلها وطلب منهم عدم مغادرة المنزل: "انتظروا أنا في الطريق، ما تخلّوا آية تطلع"، لم يمر الوقت كثيرًا حتى حطت سيارته أمام المنزل، ودخل وابتسامة تقفز من وجهه، فهرعت إلى يديه تقبلهما، ثم أخرج الهدية من وراء ظهره لها، وكانت لعبة على شكل "دبٍّ أحمر".
تحط بذاكرتها عند موقف آخر: "لم يعتد أبي كثيرًا على الظهور لكونه مطلوبًا للاحتلال الإسرائيلي، ففي يوم أخبرتني المعلمات أنه جاء يسأل عني وطلب مقابلتي عند المديرة، شعرتُ بالصدمة والفرحة معا، وحينما خرجت من الفصل رأيت الطالبات والمعلمات خرجن من الفصول ليشاهدن القائد أبي الذي كان اسمه علمًا في فلسطين".
تحتارُ آية بين دراسة السكرتارية الطبية مع بقية إخوتها الذين يخططون لدراسة الطب حتى تكتمل حلقات حلمهم بإنشاء عيادة تحمل اسم والدهم الشهيد، يداوون فيها أوجاع الجرحى والمصابين، أو دراسة الإعلام.
تزاحم مشاعر الفرحة كلمات والدتها وهي تقول: "تفوق آية، ومن قبلها شقيقتها ربا التي حصلت على معدل 92% بالفرع العلمي العام الماضي، عوضٌ جميلٌ من الله، فبعدما امتلأ البيت بالحزن بفراق زوجي الشهيد، جاء تفوقهما انتصارًا على الوجع والفقد".
فآية تفوقت في الثانوية العامة، وشقيقتها ربا تدرس طب الأسنان، ووالدتها ناقشت رسالة الماجستير قبل ستة أشهر بالجامعة الإسلامية.. في تحدٍّ وصمود تتقدم الأم ومن خلفها أبناؤها، تضيف: "بعد استشهاد زوجي حولنا حياتنا إلى معانٍ جديدة، حتى نستطيع الاستمرار وتأدية الأمانة".
تستذكر زوجها الشهيد: "كان يهتم كثيرا بالدراسة، حينما يعود إلى المنزل في المساء يطلب دفاتر أولاده ويطّلع على واجباتهم، ويجلس معهم، وكنت أحرص وأجتهد في تدريسهم لينالوا علامات عالية وأُدخل الفرحة على قلبه، ولأنه امتاز بالخط الجميل علم أولاده كتابة الخط العربي بإتقان، تمنى أن تصبح ربا طبيبة وها هي تدرس ما تمنى، وأصرت بعزيمة على تحقيق حلمها قبل عام، واليوم آية تكمل سلسلة التفوق".
في المفاوضات المكوكية التي سبقت صفقة "وفاء الأحرار"، لم يمنع انشغال أبو شمالة وسفره إلى مصر، من الاتصال بزوجته، ليس للاطمئنان عليها وعلى أبنائه فحسب، بل لمعرفة معدلات أبنائه في مدارسهم، لتعم الفرحة البيت: "تفاجأتُ بأن مفاوضات الصفقة لم تُنسِهِ أولاده".
تردف: "رحل الشهيد في 21 أغسطس/ آب 2014 برفقة زملائه في العمل الجهادي، في إثر اغتيالهم من طائرات الاحتلال خلال العدوان الأوسع على قطاع غزة، وها هم أبناؤه يواصلون دربه ويحصدون الدرجات إهداء له".