ما إن وضعت الحرب أوزارها وبدأ الحديث عن إعمار ما دمره الاحتلال في غزة انطلقت التصريحات من "ملوك الاستثمار" في المؤسسة الرسمية أو إن صح التعبير (لصوص الوطن) مطالبين بضرورة تحويل كل المبالغ المرصودة لحسابات السلطة الفلسطينية لكونها وبحسب زعمهم صاحبة "التمثيل والشرعية" وهي القادرة على إدارة هذا الملف.
هذه التصريحات الحماسية المتزاحمة والتي ظهرت فيها حرارة غير عادية وحرصٌ غير مسبوق على تولي ملف إعمار غزة، كانت خافتة ومنزوية، وبعضها بقيت مختبئة تراقب عن بعد ما يجري في غزة في حرب دفع فيها شعبنا تضحيات عظيمة وقدم كل صور ونماذج البطولة والفداء.
فرهانهم كان واضحًا إن سقطت راية المقاومة ونجحت قوات الاحتلال في حسم المعركة فإنهم سيجدون فرصة مناسبة لإعادة سيطرتهم على غزة، لتوسيع المساحات الجغرافية التي يمتلكونها كإقطاعيات يستثمرونها "لتسمين حساباتهم البنكية" وتعزيز أدوارهم السياسية، بما يحمي ويحقق مصالحهم الخاصة والحزبية تحت عباءة الوطن والوطنية.
فغزة في قناعاتهم مزرعة مثل الضفة وبقية الوطن يمكن الحضور إليها وقت الحصاد دون المشاركة في الزرع أو تقديم أي قدر من التضحية، ومن ثم فإن كل تضحيات وجهد شعبنا في كل ميدان يتم السطو عليه ليلًا في مؤامرات مختلفة حتى يبقى هذا الفلاح المقاتل ضعيفًا وهزيلًا وغير قادر على الاستفادة مما تخرج هذه الأرض من خير؛ لأن هؤلاء السادة في مقاطعة الشر يستعبدون الوطن ويخطفون كل خيراته.
لكن هؤلاء السادة أو (المتسيدين عنوة) على رقاب شعبنا كانوا عاجزين هذه المرة عن إقناع كل من شعبنا الفلسطيني ومقاومته، وبعض الدول الداعمة، وحتى بعض الجهات الدولية، لأن سجلاتهم حاضرة ومكشوفة وصحفهم ملأى بفضائح الفساد المالية، والتي تلاحقهم أينما نزلوا لذلك: عاد هؤلاء بخفي حنين وبحقائب فارغة من المال بعد جولات مكوكية.
وليتهم خجلوا من أنفسهم وهم يتسولون على حساب غزة التي لم يكلف أي منهم نفسه لزيارتها سواء وقت الحرب أو بعدها، ولا أعتقد أن مشقة السفر إليها أو كلفة الطريق تعوقهم وهم يطوفون العالم شرقًا وغربًا دون أن يكون في الأجندة زيارة جزء عزيز من الوطن، فبعضهم يخشى على نفسه من زيارة غزة خشية أن يضرب بالنعال من متضرري الحرب السابقة 2014 ومن العقوبات الأخيرة، والبعض الآخر لا يأمن على نفسه بعد تورطه في جرائم وطنية، وآخرون منهم من هو محشو بالأحقاد على غزة ومقاومتها.
لذلك فضلوا ممارسة "الوصاية غير المشروعة" عن بعد على ملف الإعمار من خلال (إقامة سد) يذكرني بسد النهضة لكن هذا السد لا يحجب الماء أو يقلص من تدفقها إلى الغير، لكنه يحجب وصول الأموال لغزة ويعطي الأفضلية لأماكن أخرى في استثمار الأموال، فقد ظهرت مبررات مسبقة للتمهيد لسرقة هذه الأموال من خلال الادعاء بحاجة الضفة للعديد من المشاريع المهمة التي يمكن أن تساهم أموال الإعمار في تمويلها.
لكن لا يخفى على هؤلاء هذه المرة أن الظرف تغير فهناك مقاومة تقف بالمرصاد وتجلس على طاولة الوسطاء وتساهم في وضع السياسات وترسم الخارطة، وذلك بما يضمن مصالح الشعب الفلسطيني وبما يمنع وصول هؤلاء اللصوص لهذا الملف ليتم تحييدهم أو تقليص أي قدرة على التأثير، ومن ثم إفشال كل محاولاتهم غير الوطنية للحصول على (سبوبة) من وراء الإعمار.
وعليه فإن جهود الوسطاء تسير بخطى ثابتة نحو إعادة إعمار القطاع بمشاورات مهمة مع قيادة المقاومة في غزة، وربما مشاركة رمزية أو شكلية من قيادة السلطة بحيث لا يكون لهذه السلطة أي سطوة أو قدرة على الاستيلاء على المال أو تعطيل عملية الإعمار في غزة، لأن هذه الأطراف: عربيًّا ودوليًّا تؤمن بأنه لا يمكن بحال تجاوز قيادة المقاومة في غزة، لأن ذلك سيقود لتوتر الأوضاع من جديد ومن ثم العودة للمربع الأول.
لذلك فليتوقف هؤلاء عن المراهقة الرخيصة، وليعودوا أدراجهم إلى مكاتبهم المكيفة في مقاطعة الشر وليبحثوا عن (سبوبة أخرى) بعيدًا عن غزة، لأن "أنيابها حادة" ويمكن أن تؤذي من يحاول أن يقامر بحقوقها، فلا سبيل لهم هذه المرة إلا حال تراجعوا عن عقوباتهم لغزة، وعادوا لحضن الوطن، وانضموا لحالة التعبئة لصالح المقاومة، ونبذوا الخيانة ولعنوا التنسيق، وكفروا عن الخطايا بإعادة كل ما سرق من أموال ومشاريع غزة السابقة.