قائمة الموقع

​هل آلمت الوردةُ بطنكِ؟

2017-06-05T08:26:51+03:00
لجين أبو نقيرة أقصى اليمين من أسرتها

قبل ستة أشهر وبضعة أيامٍ رمضانية فوقها كنتُ أضع رأسي بين كفَّيكِ لتمسحي على شعري بآية الكرسي، كانت أصابعك السحرية _يا أمي_ تدخل بين خُصله فيخرجُ أجمل "قرنين" لأميرتك "لُجين"، سامحيني _يا أمي_ لأني كنت كلما سنحت الفرصة غافلتك لأفكــه، كي أتباهى بشَعري في أثناء تطايره مع قفزاتي فوق "مربعات الحجلة" بصحبة بنات الجيران.

"لماذا رحلتِ عنا باكرًا؟"، هل سأجد الإجابة حين أكبر، كيف سأكون أمًّا وأنا في العاشرة من عمري لأخواتي الأربعة: هالة وليان وجنان، وهبة التي حملت اسمكِ لكنها لم تشتَّم رائحتك قط.

إنها المرة الأولى التي أقصد فيها السوق مع أبي دون أن ترافقينا كي نشتري زينة رمضان، ولكن الفوانيس هذا العام لا تتلألأ ألوانها يا أمي، لو أننا كنا نعلم الغيب لأبقينا رسوماتك المزخرفة والزينة التي تتفنّين في صنعها ليفوق جمالها زينة الأسواق، لا تهتمي؛ فأنتِ حاضرةٌ في كل همسة ولمسة، وصوتك في جنبات البيت والحديث لا يروق إلا عنكِ.

يوم تزوجتِ بأجمل طبيب عيون في الدنيا _وهو أبي_ قرر كل منكما أن يضع الآخر في عينيه، أتعرفين ماذا يقول عنكِ؟، أن أفضل كتاب طالع صفحاته على مدار عقد كامل هو أنتِ، الحكمة والأخلاق والتربية والحب والعطاء بلا حساب ودون انتظار مقابل غيضٌ من فيض امرأةٍ مثلك.

لو تعرفين أي حفلة استقبال كنا نخطط لأن نقيمها لكِ، وبحماسٍ بالغ نترقب عودتك من المستشفى سالمة من كل شر، تحملين بين ذراعيكِ شقيقتنا الجديدة، تسابقَنا من أجمل انتقاء الورود الحمراء كي ننثرها عليكما حين تخطوان عتبة البيت، وعِقد من الزهور كان بانتظار عنقك، لا نحن ولا الورد نصدق ما حدث.

في شتاء كانون الأول (ديسمبر) من عام 2016م اشتد عليك المخاض مساء، فسارع أبي إلى اصطحابك إلى أقرب مركز صحي، وبعد ساعتين على وضعك طفلة جميلة بدت كأنها نسخة عنك راحت علامات الإرهاق تستوطن وجهك البيضاوي، عندئذ حاول الأطباء تهدئة فزعك بالحقن والمسكنات، لكن صراخك: "يا الله، يا الله، عذبتموني" كان يؤشر على ما هو أسوأ، وأن النزف يتضاعف، وهذا ما كان.

بعد تجاوز عقارب الساعة الواحدة ليلًا، وفي خضم صرخاتك المتواصلة أراكِ أبي المسكين طفلتك الوليدة كي تقرَّ عينك بها للمرة الأولى، لم تقدري حتى على احتضانها، وإذا الطبيب يدخلكِ فورًا إلى غرفة العمليات، وسرعان ما خرج ليقول: "البقاء لله".

تلك الزهور نثرناها على وجهك النائم كالبدر، هذه أول مرةٍ أعرف أن البدر يمكن أن ينام في مكان غير السماء، أنا حتى كلمة كفن لم أفهمها إلا حين رأيتك في تلك الدقائق المعدودة.

انفضَّ الناس عن بيتنا في ليلةٍ ظلماء، ثم نزعتُ ورقة من "دفتر العلوم" وكتبت إليك بخط مبعثر: "أمي أعدكِ أن أتذكرك في كل يوم، أرجوكَ أيها النور المنبثق من قلبها لا تتركني، أسأل الله أن تكوني بالفردوس الأعلى وأكون معك، والسلام عليك يا أحلى أم- ابنتكِ لُجين".

أختي هالة التي تصغرني بعام واحد تدعو لكِ أيضًا مع نهاية صيام كل يوم، لم أعرف كيف أتصرف حين رأيتها تسارع إلى ارتداء ملابسها البيضاء الناصعة في ليلة إعلان حلول رمضان لأداء أولى صلوات التراويح، هالة صارت تبكي حين رأت أن كل طفلة تقبض على يد أمها إلا هي أطلقت يدها إلى الهواء، أحرقت دموعها قلبي وأبكتنا جميعًا معها يا أمي.

وليان ابنة الأعوام الخمسة، شبيهتك في الطباع، فما زالت تنتظر الصباح على أحرّ من الجمر كي تحصل على مصروف مضاعف في شهر رمضان كونها تصوم صيام العصافير، أنت وعدتِها وبابا الآن يفي بالوعد نيابةً عنكِ.

أخشى أن أحدثكِ عن "جنان"؛ فتخرج الدموع من التراب الذي يغطيك، اصطَحبنا بابا ومعنا ضمة ورد لزيارة قبرك، وحين أراد أن يغرس وردة نهرته جنان وقالت: "بابا ما تحفر هون؛ بطن ماما بوجعها"، لا أعرف من أين تأتي أختي بتعليقاتها الذكية البريئة الموجعة المباغِتة.

حاول أبي أن يطمئنها أنك لن تتأذي، ثم زرعنا الورد وسقيناه بماء قلوبنا ورحلنا عن جسدك المدفون، يا إلهي لو أننا نتحول إلى شمس حتى نداعبكِ صيفًا، ولو أننا نصبح مطرًا لنغسلك بزخَّاته حين يحل الشتاء.

عودي قليلًا _يا أمي_ كي نقيم مسابقات قراءة القرآن، وكي نجلس معًا نتذاكر سيرة الأنبياء والصحابة، عودي "أقل من القليل" لترسمي بأصابعك التي كانت تسرّح شعري لوحة رمضانية يصعب نسيانها، لتزيحي أجواء الحِداد الثقيلة عن عيدنا المقبل، لنرى شيئًا من الجنة التي عشِناها في كنفكِ.

اخبار ذات صلة